رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي ورئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين يتحدث عن فقه التدرج فى دعوة رسول الإسلام
رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن فقه التدرج فى دعوة رسول الإسلام
بقلم \ المفكر العربى الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربى الدولى
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
الرئيس التنفيذي لجامعة فريدريك تايلور بالولايات المتحدة الأمريكية
الرئيس التنفيذي لجامعة بيرشام الدولية بأسبانيا
الرئيس التنفيذي لجامعة سيتي بكمبوديا
الرئيس التنفيذي للمؤسسة الدولية للدراسات المتقدمة بأمريكا
ورئيس جامعة الوطن العربي الدولي ( تحت التأسيس )
الرئيس الفخري للجمعية المصرية لتدريب وتشغيل الشباب
مستشار مركز التعاون الأوروبي العربي بألمانيا الإتحادية
الرئيس الفخري لمنظمة العراق للإبداع الإنساني بألمانيا الإتحادية
الرئيس التنفيذي للجامعة الأمريكية الدولية
الرئيس الشرفي للإتحاد المصري للمجالس الشعبية والمحلية
قائمة تحيا مصر
مما لاشك فيه ان من خصائص دعوة خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم أنها دعوة عالَمية إلى الناس كافة؛ ولهذا لم تكن معجزتُه صلى الله عليه وسلم معجزةً حسية وقتية كمعجزات الأنبياء السابقين، ولكنها كانت معجزة عقلية، تخاطب العقل وتغذي الروح، وتتفق مع فطرة الإنسان، وتأخذ بيده، وتنير له الطريق، وتفتح له مجالات الفكر والتأمل كي يرقى بنفسه، ويحرر ضميره فلا يعبد إلا الإله الحق سبحانه وتعالى.
• لقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم، وكان هناك من مشركي العرب مَن يعبد أصنامًا صنعها بيده، وهو يعلم في حقيقة نفسه أنها لا تضر ولا تنفع، ولا تحمي نفسها ولا عابدها، ولكنهم يظنون ظن الجاهلية أنها تقرِّبهم إلى الله تعالى.
• كان أحدهم إذا وقع في شدة لم يلجأ إلى هذه الأصنام ولكن يلجأ إلى الذي في السماء، ولم يقرُّوا لهذه الأصنام بصفة الربوبية، ولكنه الجهل والجحود والاستكبار.
نعم كانوا يعبدون الله – في زعمهم – على بقايا من دين إبراهيم عليه السلام، ولكنهم حرَّفوا وغيَّروا، وتركوا كما فعل من كان قبلهم من اليهود والنصارى.
• وبعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وكان هناك مَن يعتقد أن عيسى ابن الله أو أنه إله أو ثالث ثلاثة، وفي الحقيقة أن كثيرًا منهم لم يجدوا لإنجيل عيسى عليه السلام أثرًا بعد رفعه، ومعاداة اليهود والرومان له، فألَّفوا لأنفسهم دينًا أشبه ما يكون بما عليه عباد بوذا، واقتبسوا مما كان عليه الرومان والديانة المصرية القديمة، فكانوا أشد كفرًا وضلالاً، وفي هذا يقول الله عز وجل: ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ [التوبة: 30].
وكان اليهود – وقد علموا أن هذا الزمان هو زمان بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وهم يعرفون صفتَه كما يعرفون أبناءهم، كما أنهم كانوا يعلمون مكان بعثته، فذهبوا إلى المدينة المنوَّرة ينتظرون قدومه أو خروجه، فلما بعث الله تعالى محمدًا صلى الله عليه وسلم – كانوا أول المنكرين له، وفي هذا يقول الله تعالى: ﴿ وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 89].
وكانت حادثة أصحاب الأخدود التي ذكرها كتَّاب السير كابن هشام في السيرة النبوية[1]، والمفسرون كابن كثير في تفسير سورة البروج[2]، أنَّهم قوم خُيِّروا بين القتل وبين الرجوع عن دينهم، فاختاروا الثباتَ على العقيدة والقتل، فحرقوا بالنار؛ يقول عز وجل: ﴿ قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ﴾ [البروج: 4 – 8].
وكانت حادثة خروج أَبْرَهة لهدم الكعبة، وكان لسان الحال والمقال هو ما قاله عبدالمطلب لأبرهة لما طلب منه الإبل: (إني أنا رب الإبل، وإن للبيت ربًّا سيمنعه، قال أبرهة: ما كان ليمتنع مني، قال: عبدالمطلب: أنت وذاك)[3].
وإذا كان هذا هو الحال، فإنه قد آن الأوان لدعوة إبراهيم عليه السلام أن تتحقق، ويستجيب الله عز وجل، فكانت بعثةُ خاتم الأنبياء والمرسلين، دعوة إبراهيم عليه السلام وبشارة عيسى عليه السلام.
بعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم على حين فترةٍ من الرسل، ليكمل مسيرة إخوانه من الأنبياء والمرسلين؛ ليجدِّد الدعوة إلى توحيد الله عز وجل، ونَبْذ الشرك وترك عبادة الأصنام والأنداد، وليُخرِج الناس من الظلمات إلى النور.
وحسب سنة التدرج، فقد بدأ النبي صلى الله عليه وسلم دعوته إلى توحيد الله عز وجل، فهو الأساس والأهم، كما وجَّه دعوته عليه الصلاة والسلام إلى أهله وأقربائه أولاً، ثم دعا قومه وعشيرته، ثم أرسل الرسل والبعوث إلى ملوك الأرض يدعوهم إلى الإسلام، ويأمرهم بعبادة الله وحده وإلى مكارم الأخلاق.
ولكن قومه كذبوه وعاندوه وآذَوه، ولكنه صبر وتحمل، وظل يدعو قومه وينشد لهم الهداية؛ فهو الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، واشتد به الأذى وبأصحابه، وحوصروا حصارًا شديدًا إلى أن أذِن الله تعالى لهم بالهجرة فأقاموا دولة الإسلام.
وبعدما كانوا يؤمرون بالصبر وتحمل الأذى، وبعد أن أصبحت لهم دولة وعندهم القوة، أمروا بالقتال.
وتتجلى سنة التدرج في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم في أمور، أذكر منها:
1- نزول القرآن منجَّمًا حسب الوقائع والأحداث.
2- البَدْء بالدعوة إلى توحيد الله عز وجل.
3- البَدْء بدعوة الأقربين.
4- الدعوة السرية في بداية الأمر، ثم الدعوة جهرًا.
5- الصبر وتحمل الأذى، ثم رد العدوان، ثم القتال.
6- بناء جيل الصفوة على الإيمان بالله واليوم الآخر في فترة المرحلة المكية.
7- عدم الأمر بالتكاليف الشرعية من عبادات ومعاملات في مكة، ثم الأمر بالتكاليف والأوامر الشرعية بالمدينة المنورة.
8- لم يفرض الجهاد إلا بعد قيام الدولة.
9- لم تفرض التكاليف الشرعية دفعة واحدة، وإنما فرضت بتدرج.
10- قَبول بعض أمور الجاهلية حتى تستقر العقيدة وتتهيأ النفوس للتخلِّي عنها.
وبعد:
فإن الله تعالى أرسل محمدًا صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، وقد اختاره واصطفاه ليكون صاحب الرسالة الخاتمة، وأتم به النعمة؛ قال تعالى: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128]، فقد وصفه الله تعالى بخمس صفات:
الأولى: ﴿ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ﴾؛ أي: من العرب؛ أي من عشيرتكم ومن أفضلكم وأشرفكم[4].
الثانية: ﴿ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ ﴾؛ أي: اشتد عليه ما يشق عليكم من مكاره، وأَوْلَى المكاره بالدفع مكروه عقاب الله، وهو إنما أرسل لدفع هذا المكروه[5].
الثالثة: ﴿ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ ﴾، والمراد حريص على إيصال الخيرات إليكم في الدنيا والآخرة[6].
الرابعة والخامسة: ﴿ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ﴾، وخصه الله تعالى بصفتين عظيمتين[7].
أثنى عليه ربه تبارك وتعالى في مواضع كثيرة، وأمرنا باتباعه، والعمل بما جاء به، والاقتداء بسنته صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21].
وكيف لا نقتدي به ونسلك سبيله، وقد شهِد له مَن على غير دين الإسلام وأقر – حسب دراسة أجريت – أن رسولنا محمدًا صلى الله عليه وسلم هو أعظم شخصية في التاريخ الإنساني.
ومؤلف كتاب: (الخالدون مائة، أعظمهم محمد صلى الله عليه وسلم)، هو عالِم فلكي رياضي، يعمل في هيئة الفضاء الأمريكية، ومتعته الأولى دراسة التاريخ، اسمه: (مايكل هارت)، وقد وضع دراسته على عدة أسس؛ منها:
• أن تكون الشخصية حقيقية وليست وهمية أو أسطورية.
• أن يكون الشخص عميق الأثر في الآخرين.
• وهذا الأثر لا بد أن يكون أثرًا عالَميًّا وليس محليًّا.
وعلى هذه الأسس وغيرها اختار الباحثُ رسولَ الله وخاتم النبيين محمدًا صلى الله عليه وسلم على رأس القائمة، وأنقل فقرات من كتابه الذي ترجمه الصحفي (أنيس منصور)[8].
يقول: (لقد اخترت محمدًا صلى الله عليه وسلم في أول هذه القائمة، ولا بد أن يندهش كثيرون لهذا الاختيار، ومعهم حق في ذلك، ولكن محمدًا عليه السلام هو الإنسان الوحيد في التاريخ الذي نجح نجاحًا مطلقًا على المستوى الديني والدنيوي)[9].
ويقول: (وهو قد دعا إلى الإسلام ونشره كواحد من أعظم الديانات، وأصبح قائدًا سياسيًّا وعسكريًّا ودينيًّا، وبعد ثلاثة عشر قرنًا من وفاته، فإن أثر محمد عليه السلام ما يزال قويًّا متجددًا)[10].
ويقول: (.. وربما بدا شيئًا غريبًا حقًّا أن يكون الرسول محمد صلى الله عليه وسلم في رأس هذه القائمة، رغم أن عدد المسيحيين ضعف عدد المسلمين، وربما بدا غريبًا أن يكون الرسول عليه السلام هو رقم واحد في هذه القائمة، بينما عيسى عليه السلام هو رقم 3، وموسى عليه السلام رقم 16، ولكن لذلك أسباب:
من بينها أن الرسول محمدًا صلى الله عليه وسلم قد كان دوره أعظم وأخطر في نشر الإسلام وتدعيمه وإرساء قواعد شريعته أكثر مما كان لعيسى عليه السلام)[11].
ووددتُ أن أنقل كلام الرجل المنصِف عن رسولنا صلى الله عليه وسلم، ولكني كرجل مسلم أعبر عن نفسي بما عبر عنه الشيخ محمد الغزالي رحمه الله: (فأنا رجل مسلم عن علم، أعرف لماذا آمنت بالله رب العالمين؟ ولِمَ صدقت بنبوة محمد؟ ولماذا اتبعت الكتاب الذي جاء به؟ بل لماذا أدعو الآخرين إلى الإيمان بما سكنت إليه نفسي من هذا كله)[12]، فإني كقاطف زهرة من بستان كله روعة وجمال.
ولا أدعي أنني أكتب عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، ولست أهلاً لذلك، ولكني تتبعت سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الكتب القديمة والحديثة كي أستخرج منها ما يخص موضوع البحث، وهو التدرج في دعوة النبي الخاتم عليه الصلاة والسلام لتكون نبراسًا للدعاة، ومعالِمَ على الطريق؛ كي يهتدي بها السائرون على الدرب، مستحضرًا في ذهني ونفسي قول الحق تبارك وتعالى: ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [يوسف: 108]، فأسأل الله تعالى أن يرزقَنا البصيرة وحُسن الاتباع.
وعلى غرار ما سبق في هذا البحث – خصوصًا في باب التدرج في دعوة الأنبياء – فإن دعوة النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم قد مرت بمراحل متعددة ومتدرجة:
فالإمام ابن القيم رحمه الله تعالى ذكر في كتابه زاد المعاد خمس مراتب للدعوة؛ وهي:
المرتبة الأولى: النبوة.
المرتبة الثانية: إنذار عشيرته الأقربين.
المرتبة الثالثة: إنذار قومه (مشركي مكة).
المرتبة الرابعة: إنذار قوم ما أتاهم من نذير من قبله، وهم العرب قاطبة.
المرتبة الخامسة: إنذار مَن بلغته دعوتُه من الجن والإنس إلى آخر الدهر[13].
ولكنني أقدم تقسيمًا آخر، مع أن التقسيمات كلها تتفق وسنة التدرج التي سارت عليها دعوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وسارت عليها دعوات جميع الأنبياء والمرسلين صلى الله عليهم أجمعين، غير أن التقسيم الذي أقدمه يرتكِزُ على منظور دعويٍّ لاستخلاص المنهج الذي يسير على أساسه الدعاة، وللتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم، فهو سيد الدعاة وإمامُهم وقدوتهم إلى آخر الزمان، وهذا التقسيم كما يلي:
المرحلة الأولى: الإعداد للرسالة ونزول الوحي.
المرحلة الثانية: الدعوة سرًّا، وتشتمل على: بماذا بدأ وبمن؟
المرحلة الثالثة: الجهر بالدعوة وردود الأفعال من الملأ، وبداية الاضطهاد والمساومة، ومحاولة الفرار من الاضطهاد والتعذيب (الهجرة إلى الحبشة).
المرحلة الرابعة: الهجرة إلى المدينة وما سبقها من إعداد ومقدمات.
المرحلة الخامسة: إقامة الدولة الجديدة بالمدينة وإرساء قواعدها.
المرحلة السادسة: الانطلاق لنشر الدعوة وفرض التشريعات، ومنها الجهاد.
المرحلة الأولى: الإعداد للرسالة ونزول الوحي:
1- وكان البدء: الاختيار والاصطفاء، ﴿ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [القصص: 68].
يقول ابن القيم رحمه الله:
(وكما خلق السموات سبعًا، فاختار العليا منها فجعلها مستقر المقربين من الملائكة، واختصها بالقرب من كرسيِّه ومن عرشه، وكما اختار سبحانه من الملائكة المصطَفَيْن منهم على سائرهم؛ كجبريل وميكائيل وإسرافيل، وكذا اختياره سبحانه للأنبياء من ولد آدم، واختياره الرسل منهم، واختياره أولي العزم منهم وهم خمسة، فاختار منهم محمدًا صلى الله عليه وسلم)[14].
فسبحانه وتعالى له الخلق والاختيار، وهو أعلم سبحانه حيث يجعل رسالته، وليس الاختيار لأحد من الخلق؛ لأن الكفار اقترحوا أن تكون الرسالة لرجل غير محمد، وحكى الله تعالى عنهم ذلك في قوله: ﴿ وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ [الزخرف: 31، 32].
يقول ابن القيم رحمه الله:
(فالله عز وجل هو الذي يقسِّم فضله بين أهل الفضل حسب علمه بمواقع الاختيار، ومن يصلح له ممن لا يصلح، وهو الذي رفع بعضهم فوق بعض درجات، وقسم بينهم معايشهم ودرجات التفضيل، وهو سبحانه أعلم بمواقع اختياره؛ كما قال تعالى: ﴿ وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ﴾ [الأنعام: 124]؛ أي: (أعلم بالمحل الذي يصلح لاصطفائه، وكرامته وتخصيصه بالرسالة والنبوة دون غيره)[15]، فكان الاختيار والاصطفاء لخير أهل الأرض وأكرمهم وأشرفهم صلى الله عليه وسلم.
2- وكانت إرادة الله تعالى أن ينشأ – عليه الصلاة والسلام – يتيمًا لتكون تربيتُه خالصةً على عناية الله تعالى وحده؛ قال تعالى: ﴿ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى ﴾ [الضحى: 6]، وهذا أيضًا من الإعداد للرسالة.
3- وكانت معجزة شق الصدر الواردة في كتب السيرة، وفي تفسير قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴾ [الشرح: 1][16].
4- الخَلوة في الغار للتحنُّث وبدء الوحي:
روى البخاري رحمه الله تعالى عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت: (أول ما بُدِئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حُبِّب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء فيتحنَّث فيه – وهو التعبد اللياليَ ذوات العدد – قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء)[17].
يقول ابن حجر في الفتح:
ومعنى يتحنث: يتحنَّف؛ أي: يتبع الحنيفية، وهي دين إبراهيم عليه السلام[18].
ويقول رحمه الله:
(والله عز وجل فطر محمدًا على التوحيد، وبغَّض إليه الأوثان، ووهب له أسباب النبوة، وهي الرؤيا الصالحة، وحبَّب إليه خِلالَ الخير، ولزوم الوحدة؛ فرارًا من قرناء السوء)[19].
قلت: والتدرج هنا واضح جلي؛ فالوحي لم ينزل عليه فجأة، بل كانت الرؤيا الصادقة أولاً، ثم حبب إليه الخلوة في الغار، وفيها صفاء القلب، ونقاء الروح، والاقتراب من الحق، والابتعاد عن الباطل وصخب الحياة، حتى جاءه الحق ونزل عليه الوحي.
والخلوة مع النفس بعيدًا عن الخلق لها أهمية خاصة في حياة المسلم عامة، والداعي بصفة خاصة؛ ففيها محاسبة النفس، ومراقبة الله عز وجل، والتفكر، والتدريب على التخلص من الكِبْر والعُجْب والحسد والرياء، وحب الدنيا وحب السمعة والمدح، فتلك آفات قاتلة تضيع الأجر، ولا تجعل في الدعوة بركة ولا ثمرة.
نزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ففي حديث عائشة رضي الله عنها الذي ذكرته آنفًا تقول: (فجاءه الملك، فقال: اقرأ…)، وفتر الوحي، وقال صلى الله عليه وسلم – وهو يحدث عن فترة الوحي -: ((بينما أنا أمشي إذ سمعت صوتًا من السماء فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فرعبت منه، فرجعت فقلت: زمِّلوني، فأنزل الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ ﴾ [المدثر: 1، 2] إلى قوله: ﴿ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ﴾ [المدثر: 5]، فحَمِيَ الوحي وتتابع)[20].
ويحدثنا ابن القيم رحمه الله تعالى عن مراتب الوحي، فيقول:
إحداها: الرؤيا الصادقة، وكانت مبدأ وحيه صلى الله عليه وسلم.
الثانية: ما كان يلقيه الملك في رُوعه وقلبه من غير أن يراه.
الثالثة: كان يتمثل له الملك رجلاً فيخاطبه حتى يعيَ عنه ما يقول له.
الرابعة: أن يأتيه في مثل صلصلة الجرس، وكان أشده عليه.
الخامسة: أن يرى الملك في صورته التي خُلق عليها، فيوحي إليه ما شاء الله.
السادسة: ما أوحاه الله إليه وهو فوق السموات ليلة المعراج.
السابعة: كلام الله له بغير واسطة مَلَك…)[21].
المرحلة الثانية الدعوة سرًّا:
بماذا بدأ دعوته؟
لا شك أن دعوة النبيِّ محمد صلى الله عليه وسلم كانت كدعوة سائر الأنبياء السابقين، وهي الدعوة إلى توحيد الله عز وجل؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾ [الأنبياء: 25].
وظل يدعو – عليه الصلاة والسلام – أقربَ الناس إليه إلى الإسلام ثلاث سنوات سرًّا، إلى أن أمره الله تعالى بالجهر بالدعوة.
يقول ابن القيم رحمه الله:
(وأقام صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين يدعو إلى الله سبحانه مستخفيًا، ثم نزل عليه: ﴿ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [الحجر: 94]، فأعلن صلى الله عليه وسلم بالدعوة وجاهر قومه بالعداوة، واشتد الأذى عليه وعلى المسلمين حتى أذن لهم بالهجرتين)[22].
لقد بدأ صلى الله عليه وسلم دعوته بعد نزول الوحي عليه بين المقرَّبين إليه؛ كزوجته وابن عمه وصديقه، وكان ذلك سرًّا، والسرية هنا أمر مرحلي لا بد منه؛ لأنه مع القلة الاستضعاف، ومع الاستضعاف لا بد من الكتمان والتلطُّف والحذر، فقد يكتم المرء إيمانه ويخفي إسلامه خوفًا من بطش المتربِّصين به، وقد حكى لنا القرآن أمثلة كثيرة؛ أذكر منها:
1- مؤمن آل فرعون؛ قال تعالى: ﴿ وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ… ﴾ [غافر: 28].
2- وهذا موسى عليه السلام حين تآمر عليه الملأ، خرج من المدينة خائفًا يترقب؛ قال تعالى: ﴿ فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [القصص: 21].
3- في سورة الكهف، يحكي القرآن عن الفتية الذين آمنوا بربهم؛ أنهم لجؤوا إلى الكهف فرارًا بدينهم وخوفًا على إيمانهم أن يفتنهم قومهم، ولَمَّا بعثهم الله تعالى مرة ثانية بعد سنين طويلة، وبعثوا أحدهم إلى المدينة لينظر أيها أزكى طعامًا فقالوا له كما حكى الله تعالى عنهم، فقال: ﴿ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا * إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا ﴾ [الكهف: 19، 20].
ففي هذه المرحلة بدأ صلى الله عليه وسلم الدعوة إلى الإسلام الذي هو الاستسلام والإذعان والخضوع لله الواحد القهار، الذي له الخَلْق والأمر والاختيار، الإسلام الذي أمر الله تعالى به إبراهيم عليه السلام: ﴿ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [البقرة: 131]، والذي أوصى به يعقوب عليه السلام أبناءه عند موته، ﴿ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ [البقرة: 133].
فالإسلام هو توحيد الله عز وجل، وهو ما بدأ به صلى الله عليه وسلم.
أما بمن بدأ؟
فقد بدأ بأقرب الأقربين والمقربين إليه، وهذا من باب التدرج: البدء بالأهم وبالأقرب.
المرحلة الثالثة: الجهر بالدعوة:
بدأت هذه المرحلة بأمر الله تعالى له صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾ [الشعراء: 214].
يقول الرازي:
(وذلك لأنه تعالى بدأ بالرسول فتوعَّده إن دعا مع الله إلهًا آخر، ثم أمره بدعوة الأقرب فالأقرب؛ وذلك لأنه إذا تشدَّد على نفسه أولاً، ثم بالأقرب فالأقرب ثانيًا، لم يكن لأحد فيه طعن ألبتة، وكان قوله أنفع، وكلامه أنجح)[23]؛ حيث كان الأمر قبل هذه الآية: ﴿ فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ ﴾ [الشعراء: 213].
وما أروعَ هذا الكلام، وهو يؤكد لنا ويجلي قيمة التدرج في الدعوة كي يستنَّ به الدعاة، فيحددوا منطلق الدعوة بماذا يكون البَدْء؟ وبمن؟
واستجاب الرسول صلى الله عليه وسلم لأمر ربه، ودعا قومه، وجمعهم حسب ما جاء في كتب السيرة والتفاسير وكتب السنة، ويعلق على ذلك ابن كثير رحمه الله تعالى، فيقول:
(واستمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله تعالى ليلاً ونهارًا، وسرًّا وجهارًا، لا يصرفه عن ذلك صارف، ولا يرده عن ذلك رادٌّ، ولا يصدُّه عن ذلك صادٌّ، يتبع الناس في أنديتهم ومجامعهم ومحافلهم، وفي المواسم ومواقف الحج، وتسلَّط عليه وعلى مَن تبعه من آحاد الناس من ضعفائهم الأشداءُ الأقوياء من مشركي قريش بالأذية القولية والفعلية، وكان من أشدهم عليه عمه أبو لهب وامرأته أم جميل)[24].
ولكن إلامَ يدعو الناس؟
وما هي أهداف الدعوة الإسلامية عمومًا، وفي هذه المرحلة على وجه الخصوص؟
والإجابة إنما تكون في تتبع الآيات والسور التي نزلت بمكة في أوائل الوحي، ولعل الهدف الأول والأهم كان هو:
تربية الجماعة الأولى على مبادئ الإسلام[25]، والمقصود بناء الجيل الفريد، جيل الصفوة، جيل القيادة؛ قيادة الناس إلى الخير، وإلى ما فيه صلاحهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة، تحت زعامة سيد الخَلْق وإمام النبيين وخاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم.
ولكن ما هو الأساس الذي قامت عليه الدعوة وتربى عليه هذا الجيل؟
لقد بُعِث النبي محمد صلى الله عليه وسلم على حين فترة من الرسل لتزكية النفوس وإصلاح الفطرة، وتصحيح العقيدة والعودة بالناس إلى الحنيفية السمحة، إلى توحيد الله عز وجل، ولِمَ لا وقد كانت بعثته صلى الله عليه وسلم استجابةً لدعوة إبراهيم عليه السلام حين توجَّه إلى الله تعالى بهذا الدعاء: ﴿ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [البقرة: 129]؟
ومن هنا أستطيع القول: إن الأسس التي قامت عليها الدعوة هي[26]:
1- الوحدانية المطلَقة لله عز وجل.
2- إثبات البعث واليوم الآخر.
3- إثبات الرسالة.
وقد أفرزت هذه الأسس نتائجَ في غاية الأهمية، تعد أهدافًا منشودة في حد ذاتها؛ ومنها:
1- الأخوة في الله، والحب في الله، والموالاة، وكان من ثمرة ذلك: حفظ كيان الجماعة المسلمة، وجعلها قوة إيمانية هائلة متماسكة.
2- تحرير الإنسان من عبوديته لغير الله، وقد أثمر ذلك حفظ كرامة الإنسان، ورفع شأنه، وإثبات حرمة نفسه وعِرضه وماله، والمحافظة عليها.
3- المساواة بين البشر، فالمنشأ واحد، والأب واحد، والكل من تراب، ولا تفاضل إلا بالتقوى والعلم النافع والعمل الصالح.
4- مسؤولية كلِّ مسلِمٍ عن هذا الدين ونشر تعاليمه بين الناس، وتحمل الأعباء والتضحيات من أجله.
5- إحياء الضمير الذي يراقب الله عز وجل ويحذره ويخاف عقابه.
وتتكرر المشاهد، وتتشابه المواقف.
لَمَّا أمرهم بعبادة الله وحده والإسلام له سبحانه وتعالى، انبرى القوم يكذِّبونه ويعادونه ويتهمونه، كما فعل أمثالُهم مع أنبيائهم الكرام، وأستعِينُ بالله تعالى وبكلامه:
ففي سورة ص: ﴿ وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ * أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ ﴾ [ص: 4 – 8].
وفي سورة الأنعام آيات كثيرة تحكي وتصِف هذه الفترة العصبية والسنين العجاف التي مر بها المسلمون الأوائل، ومعهم وعلى رأسهم الرسول صلى الله عليه وسلم، والسورة الكريمة حافلة بالآيات التي تصور تلك الحِقبة، فيقول عز وجل: ﴿ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ * وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ * وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ [الأنعام: 33 – 35].
وفي سورة الإسراء مشهدٌ آخر يُصوِّر محاولاتِ الفتنة في الدين والإخراج من الديار، وتلك الضغوط الرهيبة والمحنة الشديدة التي تعرض لها النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه؛ قال تعالى: ﴿ وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا * وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا * وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا * سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا ﴾ [الإسراء: 73 – 77].
والآيات والمواقف كثيرة، لكن الذي أنبه عليه أن ما حدث مع الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم هو نفسُ ما حدث لسائر الأنبياء من قبله، يبدأ الرسول دعوته إلى قومه ويأمرهم بعبادة الله وحده، فإذا بالملأ – الكبراء منهم والسادة – يتطاولون عليه ويكذِّبونه ويحذِّرون الناس منه، وقد فعل ذلك أبو لهب عمُّه[27].
وتعرَّض النبي صلى الله عليه وسلم لسلسلة من المفاوضات أو المساومات ليتنازل عن دعوته، أو ليختار حلاًّ وسَطًا مع قومه، فيعبد آلهتهم يومًا ويعبدون إلهه يومًا كما تحكي سورة الكافرون[28]، وذلك لتخفيف الحصار أو الاضطهاد عنه وعن أصحابه، فرفض المساومة.
وطلبوا منه الآيات الحسيَّة، كما طلبها السابقون من الكافرين، ولكن القضية ليست كما يريدون أو يظنون أو يطلبون، ويردُّ عليهم القرآن حين طلبوا أن تكون له جناتٌ من نخيل وأعناب، وتفجر له الأنهار، أو يستعجل لهم العذاب، أو يكون له بيت من زخرف، أو غير ذلك، ولكن القضية ليست في تحقق هذه الآيات ووقوعها، ولكن القضية في الجحود والعناد والاستكبار؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا ﴾ [الإسراء: 59].
ويقول الله تعالى: ﴿ قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ ﴾ [الأنعام: 58]، ولكنها سنَّة الإنظار والإمهال.
عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه على القبائل:
قال ابن إسحاق:
وحدثني حسين بن عبدالله بن عبيدالله بن عباس قال: سمعت ربيعة بن عباد يحدثه أبي قال: (إني لَغلامٌ شاب مع أبي، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقف على منازل القبائل من العرب، فيقول: يا بني فلان، إني رسول الله إليكم، يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد، وأن تؤمنوا بي، وتمنعوني، وتصدِّقوا بي حتى أبيِّن عن الله ما بعثني به.
قال: وخلفه رجل أحول وضيء، له غديرتان، عليه حلة حديثة، فإذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله وما دعا إليه، قال ذلك الرجل: يا بني فلان، إن هذا إنما يدعوكم أن تسلخوا اللات والعزى من أعناقكم، وحلفاءكم من الجن من بني مالك بن قيس… إلى ما جاء به من البدعة والضلالة، فلا تطيعوه، ولا تسمعوا منه، قال: فقلت لأبي: من هذا الذي يتبعه ويرد عليه ما يقول؟ قال: هذا عمه أبو لهب…)[29].
ما أقسى أن يكون العدوُّ اللدود هو أقربَ الأقربين، وما أشد أن تكون العداوة من الداخل، إن العدوَّ الخارجي لا نستبعد منه العداوة واللدد، ولكن هذا هو قدر الدعوة تنال من الداخل ما تنال من الخارج، وما أشدها من حيرة حينما يكون العدو الداخلي يعمل لحساب العدو الخارجي، خصوصًا إذا كان هذا الداخلي يتسمى بأسماء المسلمين، ويدَّعي أنه هو وحده الذي يفهم، وفهمه هو الصحيح، وما عداه باطل وغريب، وتلك آفة أهل الزمان! فليوطن الداعي نفسه، ويرتِّب أوراقه، ويجهز عدته ليقف صابرًا واثقًا صُلبًا في وجه تلك التيارات المعادية للدعوة إلى الله تعالى، يفندها ويرد عليها بذكاء، ويبطلها بعلم، ويواجهها بالحكمة والموعظة الحسنة، ويجادل الآخر بالتي هي أحسن.
المرحلة الرابعة الهجرة إلى المدينة:
وكلما ضاقت واشتدت واستحكمت كان الفرَجُ قريبًا، ومهما طال الليل فلا بد من طلوع الفجر، وكان المنتظر أو المتوقع أن تكون الثمرة في مهد الدعوة وأرضها، ولكن العجيب أن الثمرة كانت حيث أراد الله تعالى لها، كانت في يثربَ أرضِ الخير والبركة، أرض الكرم والنصرة؛ لنعلم أن على الداعية أن يعمل ويدعو، ويبذل الجهد، ويقدم التضحيات، ويأخذ بكل أنواع الأسباب والأساليب، والنتائج لا يملِكها إلا الله عز وجل، ونحن لسنا إلا دعاة وأداة ومجاهدين من أجل الدعوة، أما الهداية والفتح فبِيَدِ الله وحده، وهذا درس للدعاة إلى آخر الزمان.
ولم تأتِ الهجرة من فراغ، بل سبقها أمور، كان منها: لقاءات النفر من الأنصار، وكانت بيعة العقبة الأولى والثانية، ويُهمني أن ألقي الضوء وأنبِّه إلى مسألة هامة، بل في غاية الأهمية ليضعها الدعاة بل المسلمون عامة نُصب أعينهم، وهي: ما الذي يرجوه المسلم من إسلامه؟
وما الذي يسعى إليه الداعية وينتظره من وراء دعوته؟
والجواب: إنه شيء واحد، وهدف واحد، الجنة، ولا شيء إلا الجنة.
ذكر ابن إسحاق أن العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاري قال: يا معشر الخزرج، هل تدرون علامَ تبايعون هذا الرجل؟ قالوا: نعم، قال: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس، قالوا: فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفَّينا؟ قال: ((الجنة))، قالوا: ابسط يدك، فبسط يده فبايعوه[30]، إنها البيعة على الجنة.
قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 111].
وهاجر النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أصحابه، واستقبلهم الأنصار خير استقبال، وولدت الدولة الجديدة، وأقيمت دعائمها، وأسست على أركان، ولكن ما هي؟
ما يلي:
المرحلة الخامسة: إقامة الدولة، وإرساء قواعدها:
أركان الدولة الجديدة في المدينة:
قامت أول دولة إسلامية على الأسس الآتية:
الأساس الأول: بناء المسجد.
الأساس الثاني: المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار.
الأساس الثالث: كتابة وثيقة تُحدِّد نظام تعامل المسلمين فيما بينهم وفيما بينهم وبين غيرهم.
وكانت المرحلة السادسة هي الانطلاق لعالمية الإسلام وانتشاره في أرجاء الجزيرة وخارجها.
وهكذا بدأت الدعوة برسول الله صلى الله عليه وسلم وحده ، ثم آمنت به زوجته خديجة رضي الله عنها، ثم صديقه الوفي أبو بكر رضي الله تعالى عنه، ثم ابن عمه علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ لنعلم من أين يبدأ الداعية، وأن الدعوة تنطلق من الداخل إلى الخارج.
ثم إنه صلى الله عليه وسلم ظل يدعو قومه وعشيرته إلى توحيد الله عز وجل، وكان القرآن المكي ينزلُ لبناء جيل الصفوة على العقيدة الصافية وإثبات التوحيد والبعث والرسالة.
ثم تعرَّض المسلمون الأوائل إلى سلسة من المحن والابتلاءات، ولكنهم صبروا وتحملوا، واختاروا الدين على الأرض والوطن، حتى جعل الله تعالى لهم فرَجًا ومخرجًا ومنطلقًا جديدًا للدعوة، وكتب الله تعالى لهم العزة والقوة والتمكين في الأرض، ويذكِّر الله تعالى عباده بذلك، فيقول: ﴿ وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [الأنفال: 26].
ثم كتب الله عليهم بعد ذلك القتال من أجل إعلاء كلمه الله عز وجل، ولحماية الدعوة، وتأديب مَن يقف في طريقها ليحول بين الناس وبين الإيمان بالله عز وجل، ولبيان الرشد من الغي لتحقيق قاعدة: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾ [البقرة: 256].
وهكذا تتجلَّى مظاهر التدرج في دعوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، والتي مرت بالمراحل السابقة، وبدأت بالاستضعاف، وانتهت بالتمكين في الأرض، وألخصها في النقاط الآتية:
1- البدء بالأقربين.
2- البدء بالتوحيد.
3- إرساء قواعد العقيدة قَبْل الأمر بالتكاليف؛ حيث بدأ الأمر بالتكاليف في المدينة بعد إقامة الدولة وتمكين الإيمان في القلوب.
4- الدعوة باللِّين وبالحكمة والموعظة الحَسَنة، وتحمُّل مشاقِّ الدعوة، والصبر على ذلك، ثم تحمل أذى المعارضين، خصوصًا في مرحلة الاستضعاف.
5- عرض الدعوة على جميع الناس؛ الفقراء والأغنياء، القريب والبعيد، وإقامة الحجة على الناس، وطلب النصرة.
6- استعمال القوة لحماية الدعوة عند الاستطاعة.
7- الالتزام الشرعي بالأحكام في كل مرحلة من مراحل الدعوة، وعدم تغليب الأهواء، وترويض النفس على قَبول حكم الله عز وجل، حتى لو كان شاقًّا على النفس؛ حيث لم يؤمَرِ المسلمون بالقتال أو ردِّ العدوان بمكة وقد كانوا أهل شَكيمة وعزة.
وخلاصة القول:
1- استعمال التدرج في الدعوة إلى الله تعالى، والهدف من ذلك هو استغلاظ أمر الدعوة؛ ففي مهدها وبدايتها قد تكون للسرية أهميتها، ثم إذا صار للمسلمين منعة وقوة، فلهم بعد ذلك أن يدافعوا عن دينهم وأنفسهم.
2- أن النتائج لا يملِكها الدعاة؛ لأنها بيد الله وحده، فالتوفيق إلى الإيمان لا يملكه إلا الله تعالى وحده، أما نحن فعلينا أن نبذل الجهد ونستفرغ الوسع في تبليغ الدعوة والجهاد بالكلمة، وبالتي هي أحسن للتي هي أقوم، أما الثمرة فقد تكون في أرض الدعوة أو في خارجها، ولنعلم أن النصر والتمكين إنما هو هبة من الله تعالى وفضل منه ومنَّة، يؤتيه مَن يشاء، ويمن به على مَن يشاء، وقتما يشاء أينما يشاء سبحانه.
3- أن الدين أغلى من الأرض ومن الحياة، وأن الدعوة إلى الله تعالى أسمى رسالة، وأعظم ما ينشغل به المسلم، ويُفني فيها حياته.
4- أن سنة الابتلاء ملازِمة للمؤمنين عامة، وللدعاة إلى الله تعالى خاصة، فليوطن الدعاة أنفسهم على ذلك؛ فهم حملة لواء هذا الدين والمحافظون عليه، والمدافعون عنه ضد حملات المشككين والمعارضين للدعوة في كل زمان ومكان.
________________________________________
[1] جزء 1 ص 36.
[2] جزء 4 ص 492.
[3] السيرة النبوية لابن هشام جزء 1 ص 51.
[4] مفاتيح الغيب جزء 8 ص 231.
[5] المرجع السابق.
[6] المرجع السابق ص 232.
[7] المرجع نفسه.
[8] الخالدون مائة، المكتب المصري الحديث، الطبعة السابعة 1986.
[9] المرجع السابق ص 13.
[10] المرجع السابق ص 13.
[11] المرجع السابق ص 17.
[12] فقه السيرة، محمد الغزالي، دار الكتب الحديثة، الطبعة السابعة 1976، ص 3.
[13] زاد المعاد، ابن القيم، جزء1 ص20 المطبعة المصرية.
[14] زاد المعاد ص 6 جزء 1 – المطبعة المصرية.
[15] زاد المعاد ص 6 جزء 1.
[16] 1 انظر: فتح الباري ص 365 جزء 1، وانظر: تفسير ابن كثير ص 524، جزء 4، مكتبة التراث الإسلامي، حلب 1980م.
[17] فتح الباري، ص 18، جزء 1.
[18] المرجع السابق.
[19] المرجع السابق ص 7 جزء 1.
[20] فتح الباري ص 23 جزء 1.
[21] زاد المعاد ص 18 جزء 1.
[22] زاد المعاد ص 20، جزء 1.
[23] مفاتيح الغيب ص 175 جزء 12.
[24] البداية والنهاية ص 40 جزء 3، مكتبة المعارف، بيروت، الطبعة الرابعة 1982م.
[25] معالم الدعوة الإسلامية في عهدها المكي أ.د. خليفة العسال، الطبعة الثانية 2001م، ص90.
[26] راجع: فقه السيرة للشيخ محمد الغزالي ص 97، ومعالِم الدعوة أ.د. خليفة العسال ص 90.
[27] انظر: تفسير ابن كثير ص 563، جزء 4 – مكتب التراث.
[28] انظر: تفسير ابن كثير ص 560، جزء 4 – مكتبة التراث.
[29] السيرة النبوية لابن هشام جزء 2 ص 24.
[30] السيرة النبوية لابن هشام، جزء 2 ص 43.