رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يؤكد أن التخطيط يعد ضرورةً من ضرورات الحياة
رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يؤكد أن التخطيط يعد ضرورةً من ضرورات الحياة
بقلم \ المفكر العربى الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربى الدولى
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
مما لا شك فيه ان التخطيط يعد ضرورةً من ضرورات الحياة للإنسان، وذلك بسبب خوفه المستمر من المجهول، والأخطار، والكوارث التي تحدق به؛ لذا حتَّمت عليه الظروف توخي الحيطة والحذر لمواجهة ذلك المجهول، فبدأ يُخطط لنشاطاته المختلفة؛ للتغلُّب على ذلك المجهول وما يتعلق به من متغيرات وتقلبات في ظروف البيئة الطبيعية التي يعيش فيها؛ من تعاقب الليل والنَّهار، وتتابع الفصول الأربعة صيفًا وشتاءً، وربيعًا وخريفًا؛ لذا فالإنسانُ يَهدف بالتخطيط إلى تنظيم شؤون حياته، ولتطويع المستقبل المجهول لأهدافه وأغراضه.
ولقد اهتمَّت الحكومات والمنظَّمات بالتخطيط كوسيلة للتحكم في ظروف المستقبل؛ لتسخيرها لمشروعاتِها وأهدافها عن طريق تَحديد الأهداف، ووضع السياسات، وتصميم البرامج، وتحديد الخطوات والإجراءات والقواعد في إطار زمني محدد، فالتخطيط يُساعد على عدم ترك الأمور والأحداث لعامل الصُّدفة أو الصواب والخطأ، وقبل أن نُحدد مفهومَ التخطيط في الإدارة الإسلامية، سنعرض هنا بعضَ تعريفات مؤلفي الإدارة الغربيين على اختلاف أفكارهم ومدارسهم؛ حيث يعرفه (هايمان) بأنه: “تحديد سابق لما سيتم عمله، وتحديد لخط سير العمل في المستقبل، يضم مجموعة منسجمة ومتتابعة من العمليات؛ بغرضِ تَحقيق أهداف معينة”[1].
ويعرفه ألبرت وترستون (Albert Waterston) بأنه: “عملية ذهنية منظمة لاختيار الوسائل الممكنة لتحقيق أهداف محددة”[2]، التخطيط إذًا مجموعة من العمليات المترابطة ماديًّا وبشريًّا، يكون بدايته النظرة الفاحصة والمتعمقة للمستقبل، والتنبُّؤ بأحداثه ومستجداته في مجال موضوع محدد، وذلك من خلال التوجيهات والسياسات التي تصدر من قِمَّة الهرم الإداري، وحساب التقديرات والحقائق الواقعية القائمة[3].
أمَّا مفهوم التخطيط في الإدارة الإسلامية، فيعرفه الدكتور فرناس عبدالباسط بأنه: “أسلوب عمل جماعي، يأخذ بالأسبابِ لمواجهة توقعات مستقبلية، أو يعتمد على منهج فكري عقدي يؤمن بالقدر ويتوكل على الله، ويسعى لتحقيق هدفٍ شرعي، هو عبادة الله وتعمير الكون”[4]، ويرى الدكتور حزام المطيري أنَّ هذا التعريف يُلغي الدورَ الفردي في التخطيط؛ لهذا يورد تعريفًا آخر أكثر شمولية، فيقول: إنَّ التخطيط الإسلامي هو “التفكير والتدبر بشكل فردي وجماعي في أداء عمل مستقبلي مشروع، مع ربط ذلك بمشيئة الله – تعالى – ثم بذل الأسباب المشروعة في تَحقيقه، مع كامل التوكل والإيمان بالغيب فيما قضى الله وقدره على النتائج”[5].
إنَّ العالَم الإسلامي في مُختلف مراحله وعصوره قد شهد أنواعًا كثيرة من التخطيط، اشتمل على جميع عناصر التخطيط الحديثة من حيث الإعداد والتنفيذ، شاملاً جميعَ نشاطات الدولة الإسلامية، وهو تَخطيط لا يَختلف كثيرًا عن التخطيط المعاصر إلاَّ في نواحي قليلة؛ مثل: حجم الخطة، والوسائل والأدوات.
وما يُميز التخطيط الإسلامي للسياسات العامَّة والمبادئ التي تستند إليها الدولة الإسلامية، هو أنَّ الله – سبحانه وتعالى – مبدعُه وواضعه، ورسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – وخلفاءه هم مَن يقوم بتنفيذه، وفيما يلي عرض لماهية التخطيط وصوره في القرآن الكريم والسنة النبوية.
التخطيط في القرآن الكريم:
يزخر القرآنُ الكريم بالعديد من الآيات التي تُمثل التخطيطَ، والتي لا يُمكن حصرها هنا، وسنذكر بعضَ الآيات، التي اتَّفق عليها كتَّاب الإدارة الإسلامية، ومن أهمها الآيات التي نزلت في سورة يوسف – عليه السَّلام – والتي تُمثل التخطيطَ الاقتصادي الربَّاني؛ حيث يقول – تعالى -: ﴿ وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ * قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ * وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ * يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ * قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ﴾ [يوسف: 43 – 49].
وقد جاء في كتب التفاسير لهذه الآيات أنَّ المطر والخصب سيأتي لمدةِ سبع سنوات متواليات، وأنَّ البقرَ هي السنين؛ وذلك لأَنَّها تثير الأرضَ التي تستغلُّ فيها الزروع والثمرات، وهن السنبلات الخضر، ثُمَّ قام يوسف بتوجيههم إلى ما يفعلونه في تلك السنين، وذلك بادخار ما استغلوه في السنوات السبع في سنبله؛ ليكونَ أبقى له، وأبعد من إسراع الفساد إليه، إلاَّ القدر أو المقدار الذي يَحتاجونه للأكل؛ بحيث يكون قليلاً، ونَهاهم عن الإسراف؛ لكي يستفيدوا في السبع الشداد، وهن السبع المحل التي تعقب السنوات السبع المتواليات، وقد بشَّرهم يوسف بأنه سيأتي عام غيث بعد عام الجدب؛ حيث تغل البلاد ويعصر الناس الزيت وغيره، كما كانت عليه عادتهم في السابق، كما اعتُبرت من قِبَلِ بعضِ الكُتَّاب بأنها موازنة تخطيطية عامة؛ حيث قام يوسف – عليه السَّلام – بعملية الموازنة بين إنتاج ادِّخار واستهلاك القمح في مصر[6]، كما وضح لنا القرآن اضطلاع يوسف بدَوره الإداري المالي الفَعَّال في إدارة أموال الدولة؛ ﴿ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ﴾ [يوسف: 55].
ومن صور التخطيط في القرآن الكريم قولُ الله – تعالى -:﴿ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ﴾ [المدثر : 1 – 5]؛ حيث يطلب الله – سبحانه وتعالى – من رسولِه القيام بتبليغ الدعوة، وترك عبادة الأصنام، كما نجد الله – سبحانه وتعالى – يأمر نَبِيَّه بالجهر بالدعوة؛ حيث كانت في أولِ مَراحلها سرية؛ حيث يقول – سبحانه وتعالى -: ﴿ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [الحجر: 94]، ويأمر رسوله بأنْ يبدأ في تبليغ الرسالة بأقربائه وأبناء عشيرته؛ لأَنَّهم الأقرب إليه، والأولى بتصديقه؛ وذلك ليكونَ بِهم قوة يعتمد عليها بعدَ الله في دخول الناس في الدعوة الإسلامية؛ قال – تعالى -: ﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الشعراء: 214 – 215]، كما يقول الحق – تبارك وتعالى -: ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ﴾ [الأنفال: 60]، وهذه الآية تَحتوي على التخطيط للحرب، والاستعداد له من تَجهيز للجيوش وغيره للقتال في سَبيلِ الله، ومن صور التخطيط للحرب والثَّبات وعدم التراجُع في ميدان القتال قوله – تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الأنفال: 45]، كما ورد في القرآن الكريم طريقة التخطيط للحرب في حالة إقامة الصلاة؛ حيث أراد الكفار في إحدى الغزوات أنْ يَفدوا على الرسول – صلَّى الله عليه وسلَّم – أثناء تأدية الصلاة، فأوضح – سبحانه وتعالى – كيفيةَ الصلاة أثناءَ الحرب؛ حيث قال: ﴿ وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً ﴾ [النساء : 102].
التخطيط في السنة النبوية:
التخطيط في السنة النبوية هو امتداد للتخطيط في القرآن الكريم، ومُستمد منه، وقد اشتملت السنةُ النبوية على عددٍ كبير من صُور التخطيط القائمة على مَبدأ التوكُّل والاعتماد على الله – سبحانه وتعالى – أولاً، والأخذ بالأسباب بعد ذلك[7]، وحادثة الرسول – صلَّى الله عليه وسلَّم – مع الأعرابي مَعروفة؛ حيث جاء ذلك الأعرابي وأخبره بأنه ترك ناقته عند باب المسجد دونَ أن يعقلها بعد أن توكل على الله، ولكنَّها هربت، فأخبره النبي – عليه الصَّلاة والسَّلام – بأنه كان عليه أن يتوكل على الله ويعقل الناقة؛ حتى لا تهرب[8]، ومن صور التخطيط في السنةِ النبوية قولُ الرسول – عليه الصَّلاة والسَّلام -: ((لا يُلدَغ المؤمنُ من جحر واحد مَرَّتين))[9]، والدروس المستفادة من هذا الحديث في مجال التخطيط هو الاتِّعاظ، وأخذ العبرة من الماضي، وعدم تَكرار الأخطاء، وأنْ يأخذَ المسلم الحذر والحيطة في الأعمال التي يقدم عليها.
قال سعد بن أبي وقاص – رضي الله عنه -: “عادني النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – عامَ حجة الوداع من مرضٍ أشرفت فيه على الموت، فقلت: يا رسول الله، بلغ مني من الوجع ما ترى، وأنا ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة لي واحدة، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: ((لا))، قال: أفأتصدق بشطره؟ (أي: نصفه) قال: ((لا))، قال: أفأتصدق بثلثه، قال: ((فالثلث يا سعد، والثلث كثير، فإنَّك إنْ تدَع ورثتك أغنياء خيرٌ من أن تدعهم عالة يتكففون الناس))”[10]، ويوضح هذا الحديث أنَّ الاحتياطَ واجب، وأنَّ الإنسانَ يَجب أنْ يعتمد على نفسه بعد الله – عزَّ وجَلَّ – مع الأخذ بالأسباب؛ لكي يعيشَ عيشة كريمة تقيه من ذُلِّ السؤال، أو الاعتماد على الغير.
ويُمكن توضيح التخطيط للدَّعوة الإسلامية في عهد الرسول – عليه الصَّلاة والسَّلام – من خلال مرحلتين:
المرحلة الأولى: التخطيط للدعوة في العهد المكي.
ولقد مرَّت الدعوة الإسلامية بعدة خطوات، هي:
أ- سرية الدعوة:
وقد استغرقت مدةَ ثلاث سنوات، وكانت بدايتها قول الله – تعالى – للرسول: ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ﴾ [المدثر: 1 – 5]، ثُمَّ جاء الأمر للرسول – عليه الصَّلاة والسَّلام – بإنذار أقاربه وعشيرته: ﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾ [الشعراء: 214]، بل إنَّ الله – عزَّ وجل – حدَّد له أسلوب الدعوة الذي سيتبعه قائلاً: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾ [النحل: 125].
ولقد كان الرسولُ يَجتمع مع أصحابه في بيتِ الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي، وهذا بطبيعة الحال جزءٌ من الخطة المرسومة؛ حيث كان اختيارُ دار الأرقم مقرًّا لاجتماعات الرسول – صلَّى الله عليه وسلَّم – حيث تستبعد قريش عقدَ هذه الاجتماعات فيه؛ لكون الأرقم من بني مخزوم، وهي العشيرة المنافسة لبني هاشم، ونظرًا لصغر سِنِّ الأرقم؛ حيث كان لا يتجاوز السادسة عشرة، وفي الوقت نفسه لم يعلن إسلامه بعد، وبهذا سارت الخطة كما رسم لها.
ب- الجهر بالدعوة:
أمر الرسول – عليه الصَّلاة والسَّلام – أصحابَه بالجهر بالدَّعوة، خاصَّةً بعد إسلام عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – وقد استغرق ذلك عشرَ سنوات، ولقد تشجَّع المسلمون الأوائل خلالها أمثال أبي بكر الصديق – رضي الله عنه – وقد اشتَدَّ على المسلمين الاضطهاد والأذى من قريش، وحاول الرسولُ في هذه المرحلة جاهدًا إقناعَ قريش بقَبول دَعوته، ولكنَّهم لَم يستجيبوا، بل اشتدت مُضايقتهم له بالسخرية والاستهزاء وبالأذى، ولكنَّه صَمَّم وعقد العزم على إتمام رسالته، وقال قولته المشهورة عندما طلبت قريشٌ منه التخلي عن تبليغ رسالته، عن طريق عمه أبي طالب: ((والله يا عم، لو وضعوا الشمس في يَميني والقمر في يَساري على أن أترك هذا الأمر، ما تركتُه، حتى يُظهره الله أو أهلِك دونه)).
ج – الهجرة إلى الحبشة:
بعد أنِ اشتَدَّ الأذى بالمسلمين من قبل قريش، أمر الرسولُ – صلَّى الله عليه وسلَّم – بعضَ الصَّحابة بالهجرة إلى الحبشة، وكان عددُ الصَّحابة الذين هاجروا إلى الحبشة اثني عشر رجلاً وأربعَ نسوة، وقد أطلق بعضُ الكُتَّاب على هذه الهجرة بالتخطيط قصير المدى (تكتيكي)[11]، أما الهجرة الثانية، فكان عدد المسلمين الذين هاجروا ثلاثةً وثمانين رجلاً وثماني عَشْرَةَ امرأة، وتُعَدُّ هذه الهجرة دليلاً قاطعًا على دقة تَخطيط الرسول لمستقبل الإسلام، والحفاظ على أرواح المسلمين.
د – بيعة العقبة الأولى:
تمت هذه البيعة في السنة الحادية عشرة للنبوة الموافق (621م)، وذلك عندما التقى النبيُّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – بوفدٍ من قبيلتي الأوس والخزرج في مَوسم الحج بمكة؛ حيثُ تَمَّت بيعة العقبة الأولى، ويُروَى عن عبادة بن الصامت أنَّه قال: “كنت ممن حضر بيعةَ العقبة الأولى، وكنا اثني عشر رجلاً، فبايعنا رسول الله على ألاَّ نشرك بالله ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف”.
هـ – بيعة العقبة الثانية:
في السنة الثانية عشرة للنبوة الموافق (622م) اجتمع الرسول – صلَّى الله عليه وسلَّم – عند العقبة مع ثلاثة وسبعين رجلاً وامرأتين، وتَمَّ توقيع بيعة العقبة الثانية.
ز – الهجرة إلى يثرب:
بعد بيعة العقبة الثانية أمر الرسول – صلَّى الله عليه وسلَّم – صحابته بالهجرة إلى المدينة، فخرجوا متسللين في الخفاء، وتتابعتْ هجرتهم، حتى لَم يبقَ في مكة إلاَّ الرسول – صلَّى الله عليه وسلَّم – وأبو بكر وعلي بن أبي طالب – رضي الله عنهما – وبعض المستضعفين من المسلمين الذين لم يتمكنوا من الهجرة، ولما علمت قريش بأمر بيعة العقبة، وخَشِيَت من هجرة الرسول – صلَّى الله عليه وسلَّم – عقدوا العزمَ على قتله بأيدي شبان من مختلف القبائل؛ ليضيعَ دمُه بين القبائل، لكن الله خَيَّب مقصدهم؛ حيث نزل جبريل إلى الرسول وأخبره بالأمر، وأمره بألاَّ يبيت في فراشه، ولقد وضع الرسول – عليه الصَّلاة والسَّلام – خطةً مُحكمة ومدروسة للهجرة، وتَمَّ تنفيذها بكل دقة.
وتتمثل هذه الخطة في الآتي[12]:
1- اتباع السرية الكاملة؛ حيثُ لَم يَعرف بأمرِ خطةِ الهجرة إلاَّ أبو بكر وعلي بن أبي طالب، ولم يتم إبلاغهما بالخطة إلا قبل تنفيذها مباشرة.
2- نوم علي بن أبي طالب في فراش الرسول – عليه الصَّلاة والسَّلام – وإيهام قريش بأنَّ الرسول لا يزال في فراشه.
3- القيام بالترتيبات اللاَّزمة المشتملة على إعدادِ الراحلتين، واستئجار دليل الطريق، وتكليف أسماء بنت أبي بكر بإحضار الطعام للغار في كل مساء.
4- تضليل المشركين واستبعادهم وجودَ الرسول وصاحبه في الغار، وذلك عن طريق بقاء عبدالله بن أبي بكر معهما في الليل، ومُغادرته الغار في وقتِ السَّحر؛ لإيهام المشركين بأنه يبيت في مكة، كذلك قيام عامر بن فهيرة مولى أبي بكر برعي الغنم قربَ مدخل الغار لمحو آثارهم وآثار إمدادهم بالغذاء والمعلومات.
5- سير قافلة الرسول – عليه الصَّلاة والسَّلام – في طريق اتجاه معاكس تمامًا للطريق المألوف، وهكذا كان الرسول يأخذ بالتخطيط السابق مُعتمدًا على عون الله – سبحانه وتعالى.
المرحلة الثانية: التخطيط للدعوة في العهد المدني (تأسيس الدولة):
عندما وصل الرسولُ – صلَّى الله عليه وسلَّم – للمدينة، وجد مُجتمع المدينة مجتمعًا مُتنافرًا كثيرَ المِلَل والديانات؛ لهذا عقد العزمَ على تكوين مجتمع جديد قائم على الحبِّ والإخاء، ويؤمن بعقيدة واحدة، هي العقيدة الإسلامية، وكان تَخطيط الرسول – صلَّى الله عليه وسلَّم – يهدف إلى تحقيق الأهداف التالية:[13]
1- تأمين المسلمين وغير المسلمين على حياتهم وأرزاقهم؛ حتى يكونَ مَدعاة لزيادةِ إيمان المؤمنين، وإقبال غير المسلمين على الإسلام.
2- تحقيق الطمأنينة لمن يتَّبعون رسالته، وكفالة الحرية لهم في عقيدتهم، ككفالتها لغيرهم في دياناتهم من النصارى واليهود.
3- إخلاء المدينة من اليهود إذا لَم يُحافظوا على العهد الذي أعطَوه لرسول الله؛ للقضاء على المنازعات والصِّراعات؛ لهذا نجد الرسول – عليه الصَّلاة والسَّلام – قام من أجل تحقيق هذه الأهداف، ولكي يبني الدولة الإسلامية التي تنطلق منها الدعوة الإسلامية لنشرها في العالم قاطبة، بالخطوات التالية:
1- بناء مسجد قباء.
2- بناء المسجد النبوي.
3- آخى بين المهاجرين والأنصار.
4- وضع دستور المدينة.
5- التخطيط لحرب أعداء المسلمين من المشركين والمنافقين واليهود الذين اتَّفقوا في الهدف، وهو القضاء على الدولة الإسلامية الفتية.
وهكذا نجد أن الرسولَ والقائد محمدًا – صلَّى الله عليه وسلَّم – قد خطط لكل الأمور سابقًا ولم يتعجل، بل جاهَد، وصبر، واحتسب حتى تَحققت الأهداف بطريقة تدريجية، ودون عشوائية.
________________________________________
[1] محمد عبدالفتاح باغي، “مبادئ الإدارة العامة”، ص 79.
[2] فوزي حبيش، “مبادئ الإدارة العامة”، ص 19.
[3] مصطفى محمود عفيفي، “مبادئ وأصول علم الإدارة العامة”، ص 133.
[4] فرناس عبدالباسط، “البناء، التخطيط: دراسة في مجال الإدارة الإسلامية وعلم الإدارة العامة”، ص 85.
[5] حزام بن ماطر المطيري، مرجع سابق، ص 76.
[6] سامي عبدالرحمن، “الموازنات التخطيطية في القرآن الكريم: الاقتصاد الإسلامي”، ص 153 – 156.
[7] عبدالله بن عبدالرحمن الفايز، مرجع سابق، ص 68.
[8] المرجع السابق، ص 68.
[9] رواه البخاري ومسلم.
[10] أخرجه البخاري.
[11] حزام بن ماطر المطيري، مرجع سابق، ص 90.
[12] فهد صالح السلطان، مرجع سابق، ص 85.
[13] أحمد إبراهيم أبو سن، مرجع سابق، ص 61.