رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن معجزة الأخلاق النبوية الشريفة
رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن معجزة الأخلاق النبوية الشريفة
بقلم \ المفكر العربى الدكتورخالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربي الدولي
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
مما لا شك فيه أنه لا يمكن لنا حين نتصدَّى للتعريف بشخصية خاتم الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم؛ إلا أنْ نقرَّ ونذعن بأننا نتحدث عن أحسن الناس وأشرفهم وأكرمهم وأعظمهم وأكملهم في صفاته وأخلاقه وسيرته وأثره في الدنيا، في حياته وبعد مماته عليه الصلاة والسلام.
إننا نتحدث عن إنسان وقف التاريخ معه، يرصد خطواته ويسجل أقواله، ويرى فيه منقذ البشرية مِن لوثاتها وأمراضها التي استعصت على الأطباء، ثم هو يسير معه سير التلميذ مع أستاذه، يتعلَّم منه، وينقل أقواله وأفعاله للآخرين، فيجد فيها الجميع راحتهم وخلاصهم، وتسكن إليها نفوسهم، فيؤمن بها مَن أراد لله له الخير والهداية والرشاد والنجاة، ويجحدها ويحقد عليها أصحاب القلوب القاسية، ممن طمس الله على عقولهم وأبصارهم، فلا يَرَوْن الحق ولا يعرفونه.
والذي ينظر إلى حالته عليه الصلاة والسلام، وكيف قاد قطار الأمة بين الصعاب، وبدأها بنفسه وأكمل بنيانها حتى بدأت ترسل الوفود والرسائل للممالك الكبيرة تدعوها للإسلام، وتتصدّى لدعوتهم وهدايتهم لما فيه خيرهم ونفعهم، ثم تموت أممٌ وتبقى هي تطرد الرديء عن نفسها وتكمل المسيرة بخيرة أبنائها، تلك الأمة التي بناها عليه السلام من لا شيء وأوصلها إلى كل شيء، نعم أوصلها إلى كل شيءٍ، وكانت كما قال سبحانه وتعالى: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ المُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الفَاسِقُونَ ﴾ [آل عمران:110].
فمَن فعلَ هذا غيره بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم؟
وفي الوقت نفسه يقوم بتعليم أمته أمور دينها، فلا يترك كبيرًا ولا صغيرًا إلا دلَّ أمته عليه، وعلّمها إياه، حتى أدب دخول الحمام، وإزالة الأذى عن الطريق، والشوكة تصيب المؤمن.
وفي الوقت نفسه يقوم بحقوق زوجاته، فيكون خير الناس لأهله، وربما قام بإصلاح ثوبه بنفسه، ويتفقد أصحابه ويمشي في قضاء حوائجهم وديونهم وزواجهم وغير ذلك.
وهو أيضًا يستقبل الوفود والقبائل التي تريد الدخول في الإسلام، ويأتي الأعرابيُّ فيجذب ثوبه فيصبر عليه، ويبول الرجل في المسجد فيصبر عليه ويُعلِّم أصحابه الرفق به وكيف يطهِّرون المكان، وتأتي المرأة فتوقفه فيذهب ويقضي لها حاجتها.
وأمورٌ كثيرةٌ كثيرة، يعرفها كلُّ مَن طالع سيرته صلى الله عليه وسلم، بحيثُ لو قام ببعضها على وجه الكمال لكان مفخرة لأتباعه، فكيف بقيامه بها كلها على أكمل وجهٍ وأحسنه؟
فكيف تسنَّى له القيام بكل هذا، وهو يمرض كما يمرض الرجلان مِن أُمته؟ ويتزوج بأكثر من واحدة، ومطلوبٌ منه أن يقوم بأعباء النبوة والرسالة، والدولة الناشئة، والدفاع عنها، وإقامة العدل ونشره في الخلق، ودعوة الخلق إلى الحق، وقضاء حوائج أصحابه، والقيام بأعباء بيته الشريف، إلخ إلخ.
فمتى وكيف أوجد الوقت لذلك كله؟ وكيف قدر عليه؟ بل كيف بلغ في ذلك كله حدَّ الكمال؟ بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم.
ومهما حاولنا الجواب عن هذه الأسئلة أو غيرها فلن نجد جوابًا أحسن وأدق مِن الإذعان بنبوّته واصطفاء الله عز وجل له، وإعانته وتوفيقه على ما كلَّفه به، وأنَّ الأمر اصطفاء رباني، وأننا أمام أعظم إنسان.
أعظم إنسان في تواضعه وشجاعته وخُلُقِه، كما قال سبحانه عنه صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم:4].
فهو الكريم كما قال سبحانه: ﴿ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ﴾ [الحاقَّة:40].
وإن سألت عن أخلاقه “كان خُلُقه القرآن”، “أحسن الناس خُلُقًا”.
وفي كرمه “أجود بالخير مِن الرّيح المُرسَلة”.
وفي شجاعته كان أصحابه يحتمون به إذا اشتدت الحروب.
وكانت بعثته عليه السلام رحمة كما قال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء:107].
رحمة بأمته، التي خرجت من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومِن ظلمات الكفر والجهل إلى نور الإيمان والعلم.
ورحمة بالمرأة، التي أعطاها حقوقها، وحفظ مالها وميراثها، وهي التي كانت تُدفن حيّة عند ودلاتها في الجاهلية، وتختلف فيها أوروبا يومًا ما: هل للمرأة روح أم لا؟
ورحمة بالنصارى الذين ألهبتهم سياط يهود ومزاعمهم في نبي الله عيسى وأُمِّه عليهما السلام، واتهامها بالفاحشة وهي البريئة الصّدِّيقة البتول، فوثَّق معجزتها الخالدة، وسُمِّيت سورة في القرآن باسمها.
بل رحمة بالجن الذي استمع للقرآن الكريم، فآمن وأسلم لله رب العالمين.
ورحمة بالحيوان، فلا يجوز في ديننا اتخاذ حيوان غرضًا، أو تعذيبه، أو تحميله فوق طاقته.
ورحمة بأعدائنا الذين حاربونا فغدروا وخانوا ودَمَّروا، لكنَّا لا نغدر ولا نخون، ولا يقطع جنودنا شجرة، ولا يقتلون شيخًا عجوزًا أو طفلا أو امرأة مسالمة[1].
فقد بنى أعظم إنسان عليه السلام أُمّةً يرميها الناس بالطوب فترميهم بالثمر.
ونحن عندما نتكلم عن النبي عليه الصلاة والسلام، فنحن بالفعل نتكلم عن أعظم إنسان عرفته البشرية، في تاريخها السابق واللاحق، فهو مثال فريد لم يتكرر.
والبشرية تعرف رجالا اشتهروا بصفة أخلاقية كشجاعة عنترة، وكرم حاتم، لكن لا تعرف غير النبي عليه السلام جمع بين كل هذه الصفات، وبلغ الكمال فيها، فقد جمع أحسن الأخلاق وبلغ الكمال فيها جميعًا، وهذه لمن تدبّر إحدى دلائل نبوّته.
ومِن ثَمَّ ذهب القفال والماوردي وغيرهما إلى عَدِّ أخلاقه العظيمة مِن أمارات نبوّته عليه السلام.
فيقول الإمام القفال في “الشمائل النبوية”: “إن أحد ما يؤكد الاستدلال به على صحة نبوة الأنبياء اعتدال شمائلهم، وطهارة أخلاقهم، ودوام جريهم في سِيَرهم ومذاهبهم في أسباب الدين والدنيا على طريقة محمودة تدُلُّ ذواتُهم عليها، على أنهم أُمِدُّوا في ذلك بقوة سماويَّة؛ لخروجهم – فيما يُشاهدُون عليه من لزوم هذه الطريقة – عما جُبل عليه البشرُ من تلوُّن الأخلاق، ودُخُول ما يمتدُّ استعمالهم للمحمود منها في باب التكلف الذي لا يكاد يدوم، ولا يَعرى صاحبُه والآخذ نفسه به من تغيُّر يلحقه”[2].
ويقول الماوردي في “أعلام النبوة”: “الباب العشرون: في شرف أخلاقه وكمال فضائله صلى الله عليه وسلم: المهيَّأ لأشرف الأخلاق وأجمل الأفعال، المؤهل لأعلى المنازل وأفضل الأعمال؛ لأنها أصولٌ تقود إلى ما ناسبها ووافقها، وتنفرد مما باينها وخالفها، ولا منزلة في العالم أعلى مِن النبوة التي هي سفارة بين الله تعالى وعباده، تبعث على مصالح الخلق وطاعة الخالق، فكان أفضل الخلق بها أخص، وأكملهم بشروطها أحق بها وأمسّ، ولم يكن في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم وما دانى طرفيه مَن قاربه في فضله، ولا داناه في كماله خَلْقًا وخُلُقًا وقولًا وفعلًا، وبذلك وصفه الله تعالى في كتابه بقوله: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾. فإِنْ قيل: فليست فضائله دليلًا على نبوّته ولم يُسمع بنبيٍّ احتجَّ بها على أُمته ولا عوّل عليها في قبول رسالته؛ لأنه قد يُشارَك فيها؛ حتى يأتي بمُعْجِزٍ يخرق العادة، فيُعْلَم بالمُعْجِز أنه نبي لا بالفضل؟ قيل: الفضل مِن أماراتها وإِنْ لم يكن مِن معجزاتها، ولأنَّ تكامُل الفضل مُعوز فصار كالمُعجز، ولأنّ مِن كمال الفضل اجتناب الكذب وليس مَن كذب في ادّعاء النبوة بكامل الفضل، فصار الفضل موجبًا للصِّدق، والصدق موجبًا لقبول القول، فجاز أنْ يكون مِن دلائل الرُّسُل”أهـ[3].
وتتضح هذه القضية من خلال دراسة الواقع العربي عند بعثة النبي صلى الله عليه وسلم.
حيث جرى تزييف تاريخ العرب وتقديمهم بالصورة الهمجية القائمة على الفوضى والنهب والسلب وقطع الطريق، ولا ننكر أبدًا وقوع العرب في آثام وطوام كبيرة من الشرك بالله وعبادة الأصنام فضلًا عن الموبقات الأخرى المشار إليها، وإنما ننكر سلبهم وتجريدهم من كل فضيلة، فلم يكن العرب كذلك، وإنما كان العرب كغيرهم من الأمم لهم وعليهم.
وعلى الرغم من وقوعهم في طوام الشرك والآثام إلا أننا نلحظ وبسهولة تلك النزعة العربية جهة الأخلاق الحميدة، وحب أهل الخير والأخلاق.
وعلى خلاف أمم الأرض الأخرى لم يجحد العرب وجود الله عز وجل، ولم ينكر العرب قدرته على الفِعْل، وإنما ضلوا السبيل في طريقة الوصول إليه، فاتخذوا أصنامهم وأوثانهم شركاء يعبدونهم ليقربوهم إلى الله زُلْفى.
وقد دلَّ القرآن الكريم على ذلك في قوله سبحانه: ﴿ أَلَا للهِ الدِّينُ الخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ ﴾ [الزُّمر:3].
فلم ينكر العرب وجود الله عز وجل، بل اعترفوا بوجوده، وآمنوا به ربًّا، ثم أشركوا معه غيره، واتخذوا بينه وبينهم واسطة تقربهم إليه بزعمهم.
وهذه المرحلة التي وقف فيها العرب رغم شناعتها مِن جهة صحيح العقيدة؛ غير أنها مرحلة متقدمة على مراحل الأمم الأخرى التي جحدتْ وجود الله عز وجل، وعبدت النار، أو البهائم، أو الطبيعة، أو تمادت فأنكرت وجود آلهة في هذا الكون مطلقًا.
فهذه المقارنة بين العرب المعترفين بالله ربًّا، المشركين به في إلهيته، المتخذين واسطة بينه وبينهم، وبين الأمم الأخرى الجاحدة لوجود الله عز وجل أصلًا، هذه المقارنة تميل إلى صالح العرب قطعًا، وتجعلهم أمة أكثر تقدُّمًا وتحضُّرًا عن تلك الأمم الأخرى الأشد تخلُّفًا وتماديا في حماقة الإلحاد والكفر والجحود.
فالذي يعترف بوجود الله عز وجل ثم يتخذ له واسطة تقرّبه إليه، أفضل عند المقارنة مِن ذلك الجاحد الذي لا يعترف بإلهٍ أصلًا، أو أولئك الذين يتخذون النار أو الحيوان أو الطبيعة آلهة لهم.
وعلى الرغم مِن تأكيدنا المستمر على شناعة شرك العرب بالله عز وجل وعبادتهم الأصنام، واتخاذهم أربابًا تقربهم إلى الله زُلْفى بزعمهم؛ غير أننا نقارن بين شركهم وبين كفر الآخرين، ليكون واضحًا للقارئ الكريم مدى رِفعْة العرب على غيرهم مِن الأمم، حتى في الجانب المظلم من حياة هذه الأمم، المتعلِّق بالكفر والشرك، فالعرب أقل حدة في الكفر مِن غيرهم، وأقرب للاستجابة والهداية لطريق إلهٍ يؤمنون بوجوده ممَّن لا يؤمن بوجود إلهٍ أصلًا.
إننا حين نقارن بين شرك هؤلاء وكفر أولئك سنتأكد مِن فضل العرب على غيرهم في هذا الباب المظلم أيضًا، وأن العرب كانوا أقرب مِن غيرهم إلى طريق الله عز وجل، والمعرفة به، والاستجابة لأوامره سبحانه، ولهذا كان العرب أكثر الناس سرعة للدخول في الدين الإسلامي، أكثر مِن عبدة النار أو الحيوان والطبيعة.
وعلى الرغم مِن معاداة سادة قريش للنبي صلى الله عليه وسلم، أولَ أمرِه، غير أن جحودهم وعداءهم لم ينبع مِن جحود الله عز وجل، وإنما نبع مِن الإصرار على تقليد الآباء والأجداد، واستبعاد أن تكون الآلهة إلهًا واحدًا بزعمهم، ﴿ أَجَعَلَ الآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ﴾ [سورة ص: 5]، شيءٌ عُجاب في زعمهم أن يدعوهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى توحيد الله عز وجل، ونفي الشركاء عنه، لكن حتى هؤلاء الكفرة الفجرة في خصومتهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، لم تكن فكرة وجود الله بعيدة عن عقولهم كما هو حال عُبّاد النار وغيرهم مِن أمم الأرض التي لا تدين بالدين.
وأؤكد مرارًا أننا لا نُهوِّن مِن شرك العرب وعبادتهم أصنامهم المزعومة، وإنما نقارن بين شركهم وكفر غيرهم مِن الأمم، لنؤكد على إقرارهم بوجود إلهٍ لهذا الكون، وضلالهم في طريق الوصول إليه، فأشركوا معه غيره.
فالمعركة مع الملحدين كانت في إثبات وجود إله، بينما كانت المعركة مع العرب في إثبات أحقيته على العباد بالأمر والنهي.
فانظر إلى هذه الآيات الكريمات:
يقول سبحانه: ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ [العنكبوت:61].
﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ﴾ [العنكبوت:63].
﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [لقمان:25].
﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ المُتَوَكِّلُونَ ﴾ [الزُّمر:38].
﴿ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الحَكِيمُ العَلِيمُ * وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ * وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ * فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴾ [الزُّخرف:84 – 89].
فهم يعترفون بوجود الله عز وجل، وبأنه خلقهم، وسخَّر لهم الشمس والقمر وأنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض، يعترفون بهذا، لكن قست قلوبهم وضلَّت عقولهم عن طريق الله عز وجل، فاتخذوا وسائط بينه وبينهم، وعبدوا أصنامهم وأوثانهم التي لا تنفع ولا تضر، وتمسكوا بشرك آبائهم، ورياستهم، واستنكفوا أنْ يجلس الفقراء والضعفاء معهم في مجلسٍ واحدٍ، فيتساوى الجميع تحت لواء الإسلام، فرفضوا الانصياع، وآثروا الضلال والكفر، واستبدّتْ بهم الأهواء فحاربوا النبي صلى الله عليه وسلم، وتطاولوا عليه، ورموه بالتهم، وشوّهوا صورته في أعين الضعفاء، فقالوا: ساحر، وقالوا: مجنون، وقالوا وقالوا، فردَّ الله كيدهم ونصر رسوله وأعزَّ جنده وهزم الأحزاب وحده، والحمد لله رب العالمين.
ولسنا ندافع عن حماقات العقول، وقساوات القلوب الجاحدة للإيمان، لعنة الله على كل كفر، وإنما نقارن بين هؤلاء الجاحدين المتكبرين، وبين إخوانهم في الكفر والجحود، فاتضح أن الجحود أنواع وأشكال، وأن القوم يختلفون فيما بينهم، وأن العرب أفضل من غيرهم في هذا الباب، وأخفّهم في الضلال والكفر، وأقربهم نزوعًا للدين بما يعنيه ذلك من نزوعٍ للأخلاق.
ولاشك أن وجود بقايا مِن دين إبراهيم عليه السلام لدى العرب قد أثَّر في حياتهم هذا التأثير، وإِنْ خلطوه بطامة الشرك كما أشرنا، لكن لابد من الاعتراف بوجود بقايا مِن دين إبراهيم عليه السلام، بين العرب، والتاريخ يؤكد هذه الحقيقة.
قال الإمامُ ابن قُتَيْبَة رحمه الله: “العرب جميعًا من ولدِ إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، خلا اليمن، ولم يزالوا على بقايا مِن دينِ أبيهم إبراهيم عليه السلام، ومِن ذلك: حج البيت وزيارته، والختان، والنكاح، وإيقاع الطلاق إذا كان ثلاثًا، وللزوج الرّجعة في الواحدة والاثنتين، ودية النفس مائة من الإبل، وتفريق الفراش في وقت الحيض، والغُسْل من الجنابة، واتباع الحكم في المَبَال[4] في الخنثى، وتحريم ذوات المحارم بالقرابة والصّهر والنَّسَب، وهذه أمورٌ مشهورة عنهم، وكانوا مع ذلك يؤمنون بالمَلَكَيْن الكَاتِبَيْن.
قال الأعشى – وهو جاهِلِيٌّ -:
فلا تَحْسَبَنِّي كافِرًا لك نَعْمَةً
عَلَى شَاهِدِي[5]، يا شاهِدَ اللهِ فاشْهَدِ
يريد على لساني يا مَلَك الله فاشْهَد بما أقول.
ويؤمن بعضهم بالبعث والحساب، وقال زهير بن أبي سُلمى[6] – وهو جَاهِلِيٌّ لم يلحق الإسلام – في قصيدته المشهورة التي تُعَدُّ من السَّبْع الطوال:
يُؤَخَّرْ فيُوضَعْ في كتابٍ فيُدَّخَرْ
لِيومِ الحسابِ أوْ يُعَجَّلْ فَيُنْقَمِ
وكانوا يقولون في البَلِيَّةِ – وهي الناقة تُعْقَل عند قبر صاحبها فلا تُعْلف ولا تُسْقى حتى تموت -: إنَّ صاحبَها يجيء يوم القيامة راكبها، وإن لم يفعل أولياؤه ذلك بعده جاء حافيًا راجِلًا[7]، وقد ذكرها أبو زُبَيْد[8] فقال:
كالبَلايا رُؤُوسُها في الوَلايا
مانِحاتِ السَّمومِ حُرَّ الخُدودِ
والوَلايا: الْبَرَاذِع.
وكانوا يقوّرون الْبَرْذَعَة ويُدْخِلونها في عُنقِ تلكَ النَّاقَة.
وقال النابغة[9]:
مَحَلَّتُهُم[10] ذاتُ الإله ودِينُهُمْ
قَوِيمٌ فما يَرجُونَ غَيرَ العَواقِبِ
يريد: الجزاء بأعمالهم، ومحلتهم: الشام.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على دين قومه؛ يُراد: على ما كانوا عليه مِن الإيمان بالله، والعمل بشرائعهم: في الختان والغسل والحج والمعرفة بالبعث والقيامة والجزاء، وكان مع هذا لا يقرب الأوثان ولا يعيبها، وقال: (بُغِّضَتْ إِلَيَّ)[11]، غير أنه كان لا يعرف فرائض الله تعالى والشرائع التي شرعها لعباده على لسانه، حتى أُوحِيَ إليه، وكذلك قال الله تعالى: ﴿ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى ﴾ [الضحى: 6-7]، يريد ضالًّا عن تفاصيل الإيمان والإسلام وشرائعه فهداك الله عز وجل.
وكذلك قوله تعالى: ﴿ مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلَا الإِيمَانُ ﴾ [الشورى: 52]، يريد: ما كنتَ تدري ما القرآن ولا شرائع الإيمان، ولم يُرد الإيمان الذي هو الإقرار بالله؛ لأن آباءه الذين ماتوا على الكفر والشرك كانوا يعرفون الله تعالى، ويؤمنون به، ويحجُّون له، ويتخذون آلهةً من دونه يتقربون بها إليه تعالى، وتُقَرِّبُهم – فيما ذكروا – منه، ويتوقَّون الظلم، ويحذرون عواقبه، ويتحالفون على أنْ لا نبغي على أحدٍ ولا نظلم.
وقال عبد المطلب لملك الحبشة حين سأله حاجتَه فقال: إبلٌ ذهبتْ لي، فعَجِب منه كيف لم يسأله الانصراف عن البيت؛ فقال: إنَّ لهذا البيت مَن يمنع منه[12]، أو كما قال.
فهؤلاء كانوا يُقِرُّون بالله تعالى، ويؤمنون به، فكيف لا يكون الطّيّب المطهَّر قبل الوحي يُؤمن به؟.
وهذا لا يخفى على أحدٍ، ولا يذهب عليه أن مراد الله تعالى في قوله: ﴿ مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلَا الإِيمَانُ ﴾ [الشورى: 52] أن (الإيمان): شرائع الإيمان.
قال أبو محمد[13]: ومعنى هذا الحديث[14] أنه كان على دين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وقومه هؤلاء، لا أبو جهل وغيره من الكفار؛ لأن الله تعالى حكى عن إبراهيم: ﴿ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [إبراهيم: 36]، وقال لنوح: ﴿ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِك ﴾ [هود: 46] يعني: ابنه لما كان على غير دينه” أهـ[15].
ومن هذا السرد التاريخي يظهر أن العرب في جاهليتهم قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم لم يكونوا أهلَ فَتْرةٍ، يعني لم يكن العرب أهل جهالة برسالات الله عز وجل، وإنما كانوا على معرفةٍ ودرايةٍ بدين نبي الله إبراهيم عليه السلام، لكنَّهم غَيَّروا فيه وبدَّلوا، ومع هذا بقيتْ لديهم بقيَّةٌ من دينٍ، يعملون بها، وبقي فيهم مَن يُنكر عليهم ما فعلوه.
ومثال ذلك: إنكار زَيْد بن عَمْرو بن نُفَيْل عليهم: فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا “أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَقِيَ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ بِأَسْفَلِ بَلْدَحٍ[16] قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْوَحْيُ فَقُدِّمَتْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سُفْرَةٌ، فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا، ثُمَّ قَالَ زَيْدٌ: إِنِّي لَسْتُ آكُلُ مِمَّا تَذْبَحُونَ عَلَى أَنْصَابِكُمْ وَلَا آكُلُ إِلَّا مَا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ، وَأَنَّ زَيْدَ بْنَ عَمْرٍو كَانَ يَعِيبُ عَلَى قُرَيْشٍ ذَبَائِحَهُمْ وَيَقُولُ: الشَّاةُ خَلَقَهَا اللهُ وَأَنْزَلَ لَهَا مِنْ السَّمَاءِ الْمَاءَ وَأَنْبَتَ لَهَا مِنْ الْأَرْضِ ثُمَّ تَذْبَحُونَهَا عَلَى غَيْرِ اسْمِ اللهِ؟! إِنْكَارًا لِذَلِكَ وَإِعْظَامًا لَهُ”[17].
وكان زيدٌ على دين إبراهيم عليه السلام، خرج إلى الشام في طلبه، وآمن به، وكان يقول لقريش مُنكرًا عليهم: “واللهِ مَا مِنْكُمْ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ غَيْرِي”.
وقد ورد ذلك في حديث ابْنِ عُمَرَ “أَنَّ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ خَرَجَ إِلَى الشَّأْمِ يَسْأَلُ عَنْ الدِّينِ وَيَتْبَعُهُ، فَلَقِيَ عَالِمًا مِنْ الْيَهُودِ فَسَأَلَهُ عَنْ دِينِهِمْ فَقَالَ: إِنِّي لَعَلِّي أَنْ أَدِينَ دِينَكُمْ فَأَخْبِرْنِي، فَقَالَ: لَا تَكُونُ عَلَى دِينِنَا حَتَّى تَأْخُذَ بِنَصِيبِكَ مِنْ غَضَبِ اللهِ، قَالَ زَيْدٌ: مَا أَفِرُّ إِلَّا مِنْ غَضَبِ اللهِ، وَلَا أَحْمِلُ مِنْ غَضَبِ اللهِ شَيْئًا أَبَدًا، وَأَنَّى أَسْتَطِيعُهُ؟ فَهَلْ تَدُلُّنِي عَلَى غَيْرِهِ، قَالَ: مَا أَعْلَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ حَنِيفًا، قَالَ زَيْدٌ: وَمَا الْحَنِيفُ؟ قَالَ: دِينُ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَكُنْ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَا يَعْبُدُ إِلَّا اللهَ، فَخَرَجَ زَيْدٌ فَلَقِيَ عَالِمًا مِنْ النَّصَارَى فَذَكَرَ مِثْلَهُ، فَقَالَ: لَنْ تَكُونَ عَلَى دِينِنَا حَتَّى تَأْخُذَ بِنَصِيبِكَ مِنْ لَعْنَةِ اللهِ، قَالَ: مَا أَفِرُّ إِلَّا مِنْ لَعْنَةِ اللهِ، وَلَا أَحْمِلُ مِنْ لَعْنَةِ اللهِ وَلَا مِنْ غَضَبِهِ شَيْئًا أَبَدًا، وَأَنَّى أَسْتَطِيعُ؟ فَهَلْ تَدُلُّنِي عَلَى غَيْرِهِ، قَالَ: مَا أَعْلَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ حَنِيفًا، قَالَ: وَمَا الْحَنِيفُ؟ قَالَ: دِينُ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَكُنْ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَا يَعْبُدُ إِلَّا اللهَ، فَلَمَّا رَأَى زَيْدٌ قَوْلَهُمْ فِي إِبْرَاهِيمَ عليه السلام خَرَجَ فَلَمَّا بَرَزَ[18] رَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْهَدُ أَنِّي عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ”، وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَتْ: “رَأَيْتُ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ قَائِمًا مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ يَقُولُ: يَا مَعَاشِرَ قُرَيْشٍ وَاللهِ مَا مِنْكُمْ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ غَيْرِي، وَكَانَ يُحْيِي الْمَوْءُودَةَ، يَقُولُ لِلرَّجُلِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَ ابْنَتَهُ: لَا تَقْتُلْهَا أَنَا أَكْفِيكَهَا مَئُونَتَهَا، فَيَأْخُذُهَا فَإِذَا تَرَعْرَعَتْ قَالَ لِأَبِيهَا: إِنْ شِئْتَ دَفَعْتُهَا إِلَيْكَ وَإِنْ شِئْتَ كَفَيْتُكَ مَئُونَتَهَا”[19].
وكان ورقة بن نوْفَل، ابن عم خديجة رضي الله عنها، قد خرج مع زيد بن عمرو بن نُفَيْل طلبًا للدين، قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم فأعجبته النصرانية فتنصَّر، فلما جاء الوحيُ للنبيِّ – صلى الله عليه وسلم -، “فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: يَا ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنْ ابْنِ أَخِيكَ، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: يَا ابْنَ أَخِي مَاذَا تَرَى؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَبَرَ مَا رَأَى، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللهُ عَلَى مُوسَى، يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا، لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -: أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟ قَالَ: نَعَمْ لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا، ثُمَّ لَمْ يَنْشَب[20] وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ”[21].
قال ابن حجر العسقلاني: “قَوْله: (تَنَصَّرَ) أَيْ: صَارَ نَصْرَانِيًّا، وَكَانَ قَدْ خَرَجَ هُوَ وَزَيْد بْن عَمْرو بْن نُفَيْل لَمَّا كَرِهَا عِبَادَة الْأَوْثَان إِلَى الشَّام وَغَيْرهَا يَسْأَلُونَ عَنْ الدِّين، فَأَمَّا وَرَقَة فَأَعْجَبَهُ دِين النَّصْرَانِيَّة فَتَنَصَّرَ، وَكَانَ لَقِيَ مَنْ بَقِيَ مِنْ الرُّهْبَان عَلَى دِين عِيسَى وَلَمْ يُبَدَّل، وَلِهَذَا أَخْبَرَ بِشَأْنِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَالْبِشَارَة بِهِ، إِلَى غَيْر ذَلِكَ مِمَّا أَفْسَدَهُ أَهْل التَّبْدِيل” أهـ[22].
ومن هذا السرد نرى أن المشهور لدى أهل مكة آنذاك هو بقايا من دين إبراهيم عليه السلام، إضافة إلى وجود مؤمنين برسالات أخرى كالنصرانية التي آمن بها ورقة بن نوفل، وقد كانت اليهودية والنصرانية معروفة ببلاد العرب، ولهم وقائع مشهورة بعد ذلك في صدر الإسلام.
بل كان الدين معروفًا في بيت النبي صلى الله عليه وسلم نفسه[23]، حتى إنه صلى الله عليه وسلم خرجَ قبل النبوة والبعثة يتحنَّث أي يتعبَّد – صلى الله عليه وسلم -، كما ورد ذلك صراحةً في حديثِ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ: “أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ، فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ -وَهُوَ التَّعَبُّدُ[24]- اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ”[25]. أيْ حتى جاءَه وحيُ الله عز وجل وهو في غار حِراء.
وقد صوّر العرب صورة لإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وهذا صريح في معرفتهم بدين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، ففي الحديث الذي رواه ابنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا “أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ أَبَى أَنْ يَدْخُلَ الْبَيْتَ[26] وَفِيهِ الْآلِهَةُ[27]، فَأَمَرَ بِهَا فَأُخْرِجَتْ، فَأُخْرِجَ صُورَةُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ فِي أَيْدِيهِمَا مِنْ الْأَزْلَامِ، فَقَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم -: قَاتَلَهُمْ اللهُ لَقَدْ عَلِمُوا مَا اسْتَقْسَمَا بِهَا قَطُّ، ثُمَّ دَخَلَ الْبَيْتَ فَكَبَّرَ فِي نَوَاحِي الْبَيْتِ وَخَرَجَ وَلَمْ يُصَلِّ فِيهِ” [28].
ومِن هذا كله يظهر أن العرب قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كانوا على علمٍ بالرسالات، ولم يكونوا همجًا لا معرفة لهم بدينٍ، أو أهل فترة كما قيل.
وقد قال الإمام البقاعي في تفسير سورة “ص”: “﴿ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا ﴾ أي الذي تذكره من الوحدانية ﴿ فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ ﴾ وتقييدهم لها يدل على أنهم عالمون به في الملة الأولى، وأنهم عارفون بأن إبراهيم عليه السلام ومن وجد من أولاده الذين هم آباؤهم إلى عمرو بن لحي كانوا بعيدين من الشرك ملازمين للتوحيد، وأنه لا شبهة لهم إلا كونه سبحانه لم يغير عليهم في هذه المدد الطوال، وكانوا أيضًا يعرفون البعث ولكنهم تناسوه”[29]. وذكر جملة أدلة سبق بعضها إلى أن قال: “والقاطع للنزاع في هذا قوله: ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ ﴾ [النحل: 36] فما تركت هذه الآية أحداً حتى شملته وحكمت عليه بالجنة أو النار” أهـ[30].
والعرب قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم أمة من الأمم، فلابد من بلوغ الرسالات إليهم مصداقًا لهذه الآية الكريمة السابقة، مهما كان الفاصل الزمني الطويل بينهم وبين الرسالة السابقة عليهم.
والمقصود من السرد السابق بيان ما كان عليه العرب من معرفة ودراية بالرسالات السابقة على رسالة خاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم، وعلمهم بدين إبراهيم عليه السلام، ووجود من ينكر عليهم انحرافهم وتبديلهم، وقيام بعضهم بأعمال خير وأخلاق كريمة ورثوها عن الرسالات السابقة، كما أسلفناه.
وقد كان فيهم من يصل الرحم، ويقري الضيف، ويغيث الملهوف، ويجير المظلوم، وغير ذلك من الأخلاق المحمودة التي قام بها بعضهم.
ومن ذلك: ما روته عَائِشَةُ رضي الله عنها قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ ابْنُ جُدْعَانَ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَصِلُ الرَّحِمَ وَيُطْعِمُ الْمِسْكِينَ فَهَلْ ذَاكَ نَافِعُهُ؟ قَالَ: “لَا يَنْفَعُهُ، إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا: رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ”[31].
فعلى الرغم من الآثام المريرة التي ارتكبها العرب في جهة الشرك بالله عز وجل وعبادة الأصنام، أو الأخطاء التي ارتكبوها في سلوكياتهم تجاه المرأة أو تجاه بعضهم بعضًا؛ فعلى الرغم مِن ذلك كله؛ فقد بقيت بقية مِنهم تسير على آثار دين إبراهيم عليه السلام، التي وصلتهم، وتنظر إليهم قريش نظرة إجلال واحترام.
ومعلومٌ أن قريشًا كانت تقيم للحرم منزلته السامية، وتقوم على رعاية الكعبة وسقاية الحاج، ويرون في ذلك منبع عزِّهم وشرفهم وافتخارهم على بقية العرب.
فنحن هنا أمام أمة تحترم الأخلاق وتبجلها وتقدرها قدرها، وإنْ لم تلتزم بها في كثير من تصرفاتها.
هذه الأخلاق التي تحدَّث عنها العرب، ولهج بها لسانُهم، وجرت بها أشعارهم:
فمن ذلك:
في الشجاعة:
نرى قول امرئ القيس[32]:
فلا وأبيكَ ابنةَ العامرِيِّ
لا يَدَّعي القومُ أَنِّي أَفِرُّ
تميمُ بن مُرٍّ وأشياعُها
وكِندَةُ حولي جميعًا صُبُر
وفي ذم البخل:
نرى قول طرفة بن العبد:
أرى قبرَ نحامٍ بخيلُ بمالهِ
كقبرِ غويٍّ في البطالةِ مفسدِ
أرى الموتَ يعتام الكرامَ ويصطفي
عقيلةَ مالِ الفاحشِ المتشددِ
أرى العيشَ كنزًا ناقصًا كلَّ ليلةٍ
وما تنقصُ الأيامُ والدهرُ ينفد[33]
وفي الكرم:
نرى قول حاتم الطائي:
يقولونَ لي: أَهْلَكْتَ مالكَ فاقْتَصِد
وما كنتُ لولا ما تقولونَ سيِّدا
كلوا الآنَ مِن رزقِ الإله وأَيْسِروا
فإِنَّ على الرحمنِ رزقكُمُ غدًا
وفي مجال العفة خاصة عن حليلة الجار:
نرى قول عنترة:
ما استمتُ أنثى نفسَها في موضعٍ
حتى أُوفي مهرَها مولاها
أَغْشى فتاةَ الحيِّ عندَ حليلِها
وإذا غَزا في الحربِ لا أَغْشَاها
وأَغُضُّ طَرْفي ما بدتْ لي جارتِي
حتّى يُوارِي جارَتِي مأْواهَا
إِنِّي امرؤٌ سمحُ الخليقةِ ماجد
لا أُتبع النفسَ اللجوجَ هواها[34]
ونكتفي بهذه الإشارات الدالة على أخلاق العرب، وحرصهم على ذلك ومحبتهم له، وتقديرهم لمكانة الأخلاق.
فلم يكن العرب أهل جهالة وفوضوية كما صورهم بعض الناس، وإنما كانوا أصحاب أخلاق وحضارة وتقدُّم، رغم ما اعترى حياتهم مِن آثام مثل كل الناس، يكون فيهم الخير والشر، لكن لم يجتمع الشر فقط على العرب.
وقد أحسن جورجي زيدان حين قال: “لم يتصد أحد للبحث في آداب اللغة العربية قبل زمن التاريخ لقلة المواد المساعدة على ذلك، ولاعتقادهم أن العرب – حتى في الجاهلية الثانية – قبل الإسلام، كانوا غارقين في الفوضى والجهالة، لا عمل لهم إلا الغزو والنهب والحرب في بادية الحجاز والشام وفي نجد وغيرها من بلاد العرب. على أننا، إذا نظرنا إلى لغتهم كما كانت في عصر الجاهلية نستدل على أن هذه الأمة كانت من أعرق الأمم في المدنية، لأنها من أرقى لغات العالم في أساليبها ومعانيها وتراكيبها.. واللغة مرآة عقول أصحابها ومستودع آدابهم”[35].
وإذا كان الرسول يُبعث بلسان قومه؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ﴾ [إبراهيم:4]، فإذا كان التوافق في اللسان ضرورة للبيان؛ فإنّ الكمال في الأخلاق ضرورة أيضًا لقبول هذا البيان الصادر عن الرسول، وقد مضى هذا المعنى في كلام القفال والماوردي الذي نقلناه فيما سبق.
فكان حقًّا بعد ذلك كله أن يكون خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم المُرْسَل مِن الله عز وجل لهذه الأمة؛ في غاية مِن الكمال والوفرة في أخلاقه وسلوكياته، وأن لا يأخذ عليه قومه شيئًا في سلوكه قبل أو بعد بعثته.
وهذا عين ما جرى بخصوص النبي صلى الله عليه وسلم، الذي كان معروفًا مشهورًا في قومه بالصدق والأمانة، قبل البعثة وبعدها، وعلى الرغم مِن العداوة الشديدة، بينه وبين قومه، وإلصاقهم التهم الشنيعة به وبأتباعه كزعمهم أنه شاعر أو ساحر؛ إلا أنهم ورغم كل هذه العداوة لم يصدر منهم ما يجرح أمانته أو صدقه قط.
خاصة عندما نستحضر قول أم المؤمنين خديجة ل للنبي صلى الله عليه وسلم عندما نزل عليه الوحي، وذهب إليها يرجف فؤاده، فبادرته ل بقولها: “كَلَّا، أَبْشِرْ فَوَاللَّهِ لاَ يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، فَوَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ”[36].
واستحضرنا أيضًا قول أم المؤمنين عائشة ل عندما سُئِلتْ عن خُلُقِ رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقالت: “كان خلقه القرآن”[37].
وقد جمع الله عز وجل له صلى الله عليه وسلم الوصف بالخلق العظيم في قوله سبحانه: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4].
فقد بلغ صلى الله عليه وسلم حدَّ الكمال في أخلاقه كلها، وكانت هذه الأخلاق النبوية الشريفة أحد وسائل الدعوة إلى الله عز وجل بالحكمة والموعظة الحسنة، إذ الدين المعاملة، وكما قال الشاعر:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيتْ فإن همو ذهبتْ أخلاقهم ذهبوا
وقد كان صلى الله عليه وسلم مشهورا معروفا بهذه الأخلاق والصفات الكريمة بين أهله وعشيرته وسائر الناس في عصره صلى الله عليه وسلم.
وتتجلّى هذه الحقيقة بوضوح في اعتراف أبي سفيان ابن حرب رضي الله عنه قبل إسلامه، بهذه الأخلاق، وذلك في حديثه الطويل عندما التقى هرقل.
فقال أبو سفيان ابن حربٍ رضي الله عنه: “إِنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فِي رَكْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ -وَكَانُوا تِجَارًا بِالشَّأْمِ- فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مَادَّ فِيهَا أَبَا سُفْيَانَ وَكُفَّارَ قُرَيْشٍ، فَأَتَوْهُ وَهُمْ بِإِيلِيَاءَ، فَدَعَاهُمْ فِي مَجْلِسِهِ، وَحَوْلَهُ عُظَمَاءُ الرُّومِ، ثُمَّ دَعَاهُمْ وَدَعَا بِتَرْجُمَانِهِ، فَقَالَ: أَيُّكُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا بِهَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ؟
فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَقُلْتُ: أَنَا أَقْرَبُهُمْ نَسَبًا.
فَقَالَ: أَدْنُوهُ مِنِّي وَقَرِّبُوا أَصْحَابَهُ فَاجْعَلُوهُمْ عِنْدَ ظَهْرِهِ، ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُمْ: إِنِّي سَائِلٌ هَذَا عَنْ هَذَا الرَّجُلِ فَإِنْ كَذَبَنِي فَكَذِّبُوهُ.
فَوَاللَّهِ لَوْلَا الْحَيَاءُ مِنْ أَنْ يَأْثِرُوا عَلَيَّ كَذِبًا لَكَذَبْتُ عَنْهُ.
ثُمَّ كَانَ أَوَّلَ مَا سَأَلَنِي عَنْهُ أَنْ قَالَ: كَيْفَ نَسَبُهُ فِيكُمْ؟ قُلْتُ: هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ.
قَالَ: فَهَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ مِنْكُمْ أَحَدٌ قَطُّ قَبْلَهُ؟ قُلْتُ: لَا.
قَالَ: فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟ قُلْتُ: لَا.
قَالَ: فَأَشْرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ فَقُلْتُ: بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ.
قَالَ: أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ؟ قُلْتُ: بَلْ يَزِيدُونَ.
قَالَ: فَهَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ قُلْتُ: لَا.
قَالَ: فَهَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ قُلْتُ: لَا.
قَالَ: فَهَلْ يَغْدِرُ؟ قُلْتُ: لَا. وَنَحْنُ مِنْهُ فِي مُدَّةٍ لَا نَدْرِي مَا هُوَ فَاعِلٌ فِيهَا. قَالَ[38]: وَلَمْ تُمْكِنِّي كَلِمَةٌ أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئًا غَيْرُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ.
قَالَ: فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ.
قَالَ: فَكَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ؟ قُلْتُ: الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ سِجَالٌ يَنَالُ مِنَّا وَنَنَالُ مِنْهُ.
قَالَ: مَاذَا يَأْمُرُكُمْ؟ قُلْتُ: يَقُولُ: اعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَاتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُمْ، وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ وَالصِّلَةِ.
فَقَالَ لِلتَّرْجُمَانِ: قُلْ لَهُ: سَأَلْتُكَ عَنْ نَسَبِهِ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ فِيكُمْ ذُو نَسَبٍ؛ فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي نَسَبِ قَوْمِهَا.
وَسَأَلْتُكَ: هَلْ قَالَ أَحَدٌ مِنْكُمْ هَذَا الْقَوْلَ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، فَقُلْتُ: لَوْ كَانَ أَحَدٌ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ لَقُلْتُ: رَجُلٌ يَأْتَسِي بِقَوْلٍ قِيلَ قَبْلَهُ.
وَسَأَلْتُكَ: هَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، قُلْتُ: فَلَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ قُلْتُ رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ أَبِيهِ.
وَسَأَلْتُكَ: هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا فَقَدْ أَعْرِفُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَذَرَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ.
وَسَأَلْتُكَ: أَشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ فَذَكَرْتَ أَنَّ ضُعَفَاءَهُمْ اتَّبَعُوهُ، وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ.
وَسَأَلْتُكَ: أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ؟ فَذَكَرْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ، وَكَذَلِكَ أَمْرُ الْإِيمَانِ حَتَّى يَتِمَّ.
وَسَأَلْتُكَ: أَيَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ.
وَسَأَلْتُكَ: هَلْ يَغْدِرُ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لَا تَغْدِرُ.
وَسَأَلْتُكَ: بِمَا يَأْمُرُكُمْ؟ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَيَنْهَاكُمْ عَنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَيَأْمُرُكُمْ بِالصَّلَاةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ، فَإِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ، وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ، لَمْ أَكُنْ أَظُنُّ أَنَّهُ مِنْكُمْ، فَلَوْ أَنِّي أَعْلَمُ أَنِّي أَخْلُصُ إِلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ لِقَاءَهُ، وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ عَنْ قَدَمِهِ” الحديث.
وفي هذا الحديث: قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: “وَأُخْرِجْنَا فَقُلْتُ لِأَصْحَابِي حِينَ أُخْرِجْنَا: لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ، إِنَّهُ يَخَافُهُ مَلِكُ بَنِي الْأَصْفَرِ، فَمَا زِلْتُ مُوقِنًا أَنَّهُ سَيَظْهَرُ حَتَّى أَدْخَلَ اللَّهُ عَلَيَّ الْإِسْلَامَ”[39].
وهو حديثٌ طويل معروف، مشهور، يوضح بجلاء ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم مِن صفات وخصال حميدة، اعترف بها أعداؤه آنذاك.
وهذه شهادة من حاضر عارف خبير شاهد عيان، لا يمكن تجاهلها؛ لأنها وثيقة صادرة عن شاهد قريب وفي وقت عداوة واختلاف دينٍ بل وحروب، وهي شهادة أبي سفيان، ومعها شهادة أخرى مِن ملك خبير عارف بالناس وخباياهم كما يظهر من كلامه وهو هرقل عظيم الروم. وبهذا شهد له صلى الله عليه وسلم القريب والبعيد في آنٍ واحدٍ.
وثمة عشرات الشهادات على مر التاريخ، خاصة في عصرنا، من عدد كبير من المستشرقين وغيرهم من الأمم، درج بنو جلدتنا على بيانها والعناية بنشرها، وهي مشهورة متداولة بما يغني عن إعادتها في هذا ا لموضع المختصر. والحمد لله رب العالمين.
[1] كل ما مضى مأخوذ من أحاديث صحيحة مشهورة متداولة بين الناس، بحيث يمكن الوقوف عليها في كتب شمائله وأخلاقه صلى الله عليه وسلم، بما لا يتسع المقام هنا لبيانه كله، فاقتصرت على الإشارة إليه اعتمادًا على شهرته.
[2] مقدمة كتاب “الشمائل النبوية” للقفال الشاشي، ولا يزال مخطوطًا نقوم الآن على طبعه محقَّقًا، يسر الله نشره قريبًا.
[3] “أعلام النبوة” للماوردي (ص /181) ط: دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.
[4] مأخوذ من موضع البول، أيْ جعل موضع البَوْل حَاكِمًا، وفي “المغرب” (155) وعنه “أنيس الفقهاء” (59): “والقاضي الذي رُفع إليه هذه الواقعة في الجاهلية عامِرُ بن الظَّرِب العَدْواني، ولمّا اشتبه عليه حُكْمها قالت له خُصَيْلة -وهي أَمَةٌ له-: أَتْبِع الحُكْمَ المَبَالَ، ويُروى أنها قالت: حَكِّم المَبالَ، أي اجعل موضعَ البَوْل حاكمًا” أهـ. تُريد أن يبني الحُكم على ما يظهر له من موضع البول في الخنثى، فإن كان له مثل ما للنساء أخذ حُكْمهنَّ، وإن كان له مثل ما للرجال أخذ حُكمهم، والله أعلم.
[5] مثله في “الشعر والشعراء” لابن قتيبة أيضًا (1 /258)، وقال هناك: “قوله: (عَلَى شَاهِدِي) يريد: على لساني. (يا شاهد الله) يريد: الملَك الموكّل به، وكان هذا من إيمان العرب بالملكين بقيّة من دين إسماعيل صلى الله عليه وسلم”.
ونحوه عند كراع النمل في “المنجد” (231)، وفي “الصحاح” للجوهري (495)، و”اللسان” لابن منظور (3 /243)، و”المجمل” (1 /514) و”المقاييس” لابن فارس (3 /221)، و”تاج العروس” للزبيدي (8 /257).
والذي في “ديوان الأعشى الكبير” (28، ت محمد حسين) و”الصبح المنير في شعر أبي بصير: الأعشى” (133): “عَلَيَّ شَهِيدٌ” مكان “على شاهدي”.
وقد نازع الدكتور شوقي ضيف في صحة قصيدة الأعشى التي تضمنت هذا البيت، فتكلم في كتابه “تاريخ الأدب العربي: العصر الجاهلي” عن الأعشى وديوانه وقال (ص /337): “ويقال: إنه لما سمع بالرسول صلى الله عليه وسلم وانتصاراته وانتشار دعوته رغب في الوفود عليه ومديحه، وعَلِمَتْ قريش بذلك فتعرضت له تمنعه، وكان مما قاله له أبو سفيان بن حرب: إنه ينهاك عن خلال ويحرِّمها عليك، وكلها بك رافق ولك موافق، قال: وما هن؟ فقال أبو سفيان: الزنا والقمار والربا والخمر؛ فعدل عن وجهته، وأهدته قريش مائة من الإبل، فأخذها وانطلق إلى بلده معرضًا عن الرسول ودعوته؛ فلما كان بقاع منفوحة رمى به بعيره، فقتله سنة629 للميلاد. وهذه الخلال التي ذكرها أبو سفيان والتي جعلته يصد عن لقاء الرسول الكريم تدل على أنه كان وثنيًّا مغرقًا في وثنيته، وفي شعره نفسه ما يصور معالم هذه الوثنية، إذْ نراه كثير الحديث عن القيان مثل هُرَيْرَة وقُتَيْلة وجُبَيْرَة؛ بل إنه ليتحدّث عن البغايا اللائي يبعن أعراضهن. ويقرنه ابن سلام في هذا الصدد بامرئ القيس فيقول: (وكان من الشعراء مَن يَتَعَهَّر ولا يبقي على نفسه ولا يتستّر، منهم امرؤ القيس ومنهم الأعشى). وقد تمدّح في شعره كثيرًا بالقمار”، فذكر أبياتًا له في هذا وفسَّرها، ثم قال الدكتور (ص /338): “وطبيعيٌّ لمن تكون حياته على هذا النحو مِن المجون والإثم فيه أنْ يكون وثنيًّا مُتعمِّقًا في وثنيّته، وأنْ لا يعتنق الإسلام ولا غير الإسلام مِن الأديان السماوية، وقد زعم لويس شيخو فيه أنه كان نصرانيًّا، وشاركه في هذا الزعم بعض المستشرقين مستدلّين على ذلك بأنه كان يمدح أساقفة نجران ويتصل بالبيئات المسيحية في الحيرة”، قال الدكتور (ص /339): “والحق أنه لم يكن نصرانيًّا، إنما كان وثنيًّا على دين آبائه، وقد احتفظ في وثنيته بكل ما كان فيها مِن إثمٍ وفجور”، إلى أن قال الدكتور (ص /340): “وقد تصادف أن راويته الذي حمله عنه وأذاعه في الناس كان نصرانيًّا مُعمِّرًا هو يحيى أو يونس بن متى، وأن هذا الراوي من الممكن أن يكون قد عبث بالديوان فأدخل فيه ما ليس منه، ليزيد بعض المعاني المسيحية، وقد رُوِي عنه أنه كان يقول: كان الأعشى قَدَرِيًّا إِذْ يقول:
اسْتَأْثَرَ اللهُ بالوفاءِ وبالـ عَدْلِ وَوَلَّى الملامةَ الرجُلا
فسأله سائلٌ: من أين أخذ الأعشى قوله ومذهبه، فأجاب: (مِن قِبَلِ العِباديين نصارى الحيرة، كان يأتيهم يشتري منهم الخمر، فلقَّنوه ذلك)”، إلى أن قال الدكتور (ص /341): “وينبغي أن نشك كما شك ابن قتيبة في قصائد الأعشى الأخرى التي تصور أفكارًا مسيحية أو أفكارًا إسلامية؛ أما الأفكار المسيحية: فلأن راويه الذي نشره نصراني، وأما الثانية: فلأنها معان جديدة لم تعرفها الجاهلية لا هي ولا كل ما يتصل بها من ألفاظ القرآن وأساليبه”. إلى أن قال الدكتور: “ومما لا شك فيه أن قوله في قصيدة النعمان رقم 28:
فَلا تَحسَبَنّي كافِرًا لَكَ نِعمَةً عَلَيَّ شَهيدٌ شاهِدُ اللَهِ فَاِشهَدِ
مما يضعفها؛ لأنه يلخص فكرة الملائكة الشاهدين المعروفة في الإسلام” أهـ.
وفي هذا الكلام مِن الدكتور نظرٌ؛ لأنه مبنيٌّ على العقيدة الشائعة لدى كثيرٍ مِن الباحثين المتأخرين خاصة، في قضية وثنية العرب المحضة، وأنهم مِن أهل الفترة، ليس لهم اطلاع على الدين، ولم تصلهم تعاليم أي دينٍ كان، وهذه شائعة باطلة زائفة، وقد بيَّنتُ زيفها في غير هذا الموضع، وكلام ابن قتيبة الذي نعلِّق عليه دليلٌ على هذا، فقد أفاد معرفة العرب بدين إبراهيم عليه السلام، كما اشتهر أيضًا وجود أهل الكتاب بينهم، من اليهود و النصارى، بل فيما نقله الدكتور نفسه ما يفيد اتصال الأعشى بأهل الكتاب، لسببٍ أو لآخر، فلابد أَنْ يتأثَّر بهذه البيئة وتظهر بعض المعاني الدينية في شِعْره.
والاتكاء على شربه للخمر وعدم تستُّره في شعره ليس كافيًا في إثبات وثنيته المحضة وجهله بما عداها؛ لأن معاقرة الفواحش وشرب الخمر والتعهُّر لا يستلزم إثبات أو زوال عقيدة بعينها، فقد يتعهَّر الوثني أو الكتابي أو غيرهما، ولا يكون تعهُّره دليلًا على إثبات أو نفي إيمانه بعقيدة بعينها؛ لأن الدين إيمان وسلوك، والتعهُّر وشرب الخمر عقوق لأوامر الدين والسلوك القويم الذي يطلبه، فهو عقوق لبعض أوامر الدين، وليس إزالة أو نفيًّا لكل الدين عمَّن يقع في هذه الموبقات، وأنت ترى بعض المسلمين يقع في مثل هذه الفواحش والموبقات ولا يزول عنه الإسلام بمعاقرة هذه المنكرات، وإنما ينقص إيمانه بقدر معصيته، كما يزداد إيمانه بطاعته، لكن لا ينتقل من دينه إلى غيره بمجرد شرب الخمر أو الزلل في معصية.
وهذا كله ينقض أساس الدكتور الذي بنى عليه كلامه الذي نقلتُه آنفًا؛ لأن وجود الدين لدى العرب يتناغم مع وجود هذه الأمارات أو المعاني الدينية الواردة في أشعارهم، ولا يكون هذا دليلًا على نفي صحة بعض أشعارهم بهذه الطريقة، وإنما يمكن إثبات تزوير هذه الأبيات بطرق إثبات أخرى خاصة بالنقل أو غيره، وهذا ما لم يتوفر في كلام الدكتور، ولم يُنَبِّه عليه، ولو وجده لأشاعه.
وشكُّ بعض المتقدمين أو المتأخرين في قصائد جاهلية لمجرد اشتمالها على بعض المعاني الدينية التي تتفق مع الإسلام؛ ليس كافيًّا بمفرده لأنْ يكون دليلًا على نفي صحتها، ما لم يكن المعنى المذكور مقطوعٌ بعدم معرفة العرب به بوجه من الوجوه في وقت نشأة القصيدة مثلًا، وهذا ما لم يتوفر في قضيتنا هنا.
بقي أنْ أُنَبِّه أَنَّ ما نقله الدكتور عن ابن سلام قوله: “وكان من الشعراء مَن يَتَعَهَّر ولا يبقي على نفسه ولا يتستّر، منهم امرؤ القيس ومنهم الأعشى”؛ ليس مأخوذًا مِن كتاب ابن سلام مباشرة، وإنما مِن “الموشح” للمرزباني؛ لمطابقته لما في “الموشح” (ص /144)، بينما الذي في “طبقات فحول الشعراء” لابن سلام (1 /41): “فكان مِن الشعراء مَن يَتَأَلَّه في جاهليته ويتعفَّف في شِعْره، ولا يَسْتَبْهِر بالفواحش، ولا يتهكَّم في الهجاء” “ومنهم مَن كان يَنْعَى على نَفْسِه ويَتَعَهَّر؛ منهم: امرؤ القيس… ومنهم: الأعشى”. وقال العلامة أبو فهرٍ محمود شاكر في تعليقه على هذا الموضع من كتاب ابن سلام (1 /42): “ونص الموشَّح: (ومنهم من كان يتعهَّر ولا يبقي على نفسه ولا يتستر) وأظن أن (ولا يبقي على نفسه) من عمل ناسخ أو من مصحح الكتاب، والصواب (وينعى على نفسه)”، وذكر أبو فهر ما في “اللسان” (نعى): “فلان ينعى على نفسه بالفواحش: إذا شهر نفسه بتعاطي الفواحش، وكان امرؤ القيس من الشعراء الذين نعوا أنفسهم بالفواحش وأظهر التعهّر، وكان الفرزدق فعولًا لذلك” أهـ. وما ورد في كتاب ابن سلام: تعبيرٌ معروفٌ متداولٌ في “تهذيب اللغة” للأزهري (3 / 139)، وغيره من معاجم اللغة، بخلاف ما ورد في مطبوع “الموشّح”: “يبقي على نفسه”، ويعضِّد ما ذكره أبو فهر أنَّ نعي فلان على الآخر بالأمر يعني لومه إيَّاه، ونعى على نفسه شَهَّرَ بها؛ لأنَّ النَّعْي يدور على التشهير وإشهار الشيء، ومنه نعي الميت أي الإعلام بموته، بخلاف الإبقاء على النفس ففيه معنى الحفاظ عليها، والبقاء ضد الفناء، واستبقيت فلانًا: إذا وجبَ عليه القتل فعفوتَ عنه.
[6] “ديوانه” (ص /107) ضمن قصيدته التي قالها في مدح الحارث بن عوف وهرم بن سنان، ومطلعها: “أَمِنْ أُمِّ أَوْفَى دِمْنَةٌ لَمْ تَكَلَّمِ”، “شرح ديوان زهير” لثعلب (ص /42) وللأعلم (ص /8).
[7]ذكر الخطابي في “غريب الحديث” (1 /370) بيتَ أبي زُبَيْد الآتي، كما ذكر نحو ما ذكره ابن قُتَيبة هنا ثم قال الخطابي رحمه الله: “وكان هذا صنيع من يؤمن بالبعث منهم”أهـ. وأوْردَ الخطابيُّ بعده ما يُؤَيِّده من وصية خزيمة بن أَشْيَم عند موته لابنه سعد.
[8] والبيت في “المحبر” لابن حبيب (ص /323) و”غريب الحديث” للخطابي (1 /370) و”تهذيب اللغة” للأزهري (15 /391 ت الإبياري) و”معجم المقاييس” لابن فارس (1 /292 ـ 293) و”لسان العرب” لابن منظور (14 /86)، معزوًّا لأبي زبيد، وكذا في “شعراء إسلاميون” للقيسي (ص /604) شعر أبي زبيد.
[9] الذبياني، وهو في “ديوانه” (ص /47 ت أبي الفضل، ط: المعارف).
[10] هكذا ذكره بالحاء ومثله في “ديوان النابغة”، ويُرْوى أيضًا: “مَجَلَّتُهُم” بالجيم، كما في “لسان العرب” و”تاج العروس”، وغيرهما من كتب اللغة، وقال الحربي في “الغريب”: “وَيُرْوَى: مَحَلَّتُهُمْ بالحاء يُرِيدُ بَيْتَ المَقْدسِ والشَّامَ وهَىَ مَنَازِلُ الأَنْبِيَاء. مَعْنَى يَرْجُونَ: يَخَافُونَ”. وفي “تاج العروس”: “المَجَلَّةُ بفَتْحِ الجيم: الصَّحِيفَةُ فيها الحِكْمَةُ، قال أبو عُبَيد: كُل كِتابٍ عندَ العَربِ مَجَلَّةٌ” وفيه أيضًا: “ويُروَى: محلّتهم بالحاء: أي إنهم يَحُجُّون فيَحُلُّون مَواضِعَ مُقَدّسة”، وفي موضعٍ لاحقٍ مِن “تاج العروس”: “مَحَلَّتُهم بيت المَقْدِس. ويُروَى: مَجَلَّتُهم أي كِتابُهُم الإنجِيلُ، وقد تقدَّم. ويُروَى: مَخافَتُهم”. وفي “المصباح المنير”: “المجلة بالجيم الصحيفة أي كتابهم عبودية نفس الإله”.
[11] جزء من حديث طويل، وفيه: “فلما نشأتُ بُغِّضَتْ إِلَيَّ أوثان قريش”، رواه أبو يعلى الموصلي في “مسنده الكبير” ـ كما في “الإتحاف” للبوصيري (7 /16 رقم6319) ـ، والآجري في “الشريعة” (3 /1422 رقم 962)، من رواية عمر بن صُبْحٍ، عن ثورِ بن يزيد، عن مَكْحُولٍ، عن شَدَّادِ بن أوسٍ رضي الله عنه، قال: “بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم؛ إِذْ أَتَاهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عامر – وهو سيد قومه وكبيرهم (مِدْرَهُهُم) – يَتَوَكَّأُ عَلَى عَصًا فَقَامَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ثمَّ قَالَ – وَنَسَبَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إلى جده؛ فقال -: يا ابن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ إني نُبِّئْتُ أَنَّكَ تَزْعُمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ إِلَى النَّاسِ، أَرْسَلَكَ بِمَا أَرْسَلَ به إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى وَغَيرَهُمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، أَلَا وإنك نَبَوْتَ – [وعند الآجري: تفوّهتَ] – بِعَظِيمٍ، إِنَّمَا كَانَ الْأَنبِيَاءُ وَالْمُلُوكُ فِي بَيْتَيْنِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ: بَيْتِ نُبُوَّةٍ وَبَيْتِ مُلْكٍ، فلا أَنْتَ مِنْ هَؤُلَاءِ وَلَا مِنْ هَؤُلَاءِ، إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْعَرَبِ، مِمَّنْ يَعْبُدُ الْحِجَارَةَ وَالْأَوثَانَ؛ فَمَا لَكَ وَالنُّبُوَّةُ؟ وَلَكِنْ لِكُلِّ أَمْرٍ حَقِيقَةٌ فائتني بِحَقِيقَةِ قَولِكَ وَبَدَءِ شَأْنِكَ. قَالَ: فَأَعْجَبَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَسْأَلَتُهُ، ثُمَّ قَالَ: (يا أخا بَنِي عَامِرٍ إِنَّ لِلْحَدِيثِ الَّذِي تَسْأَلُ عَنْهُ نَبَأً وَمَجْلِسًا فَاجْلِسْ). فَثَنَى رِجْلَهُ وَبَرَكَ كَمَا يَبْرُكُ الْبَعِيرُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (يا أخا بَنِي عامرٍ إِنَّ حقيقةَ قولي وبَدْء شَأْنِي” فذكر حديثًا طويلًا. وسياق لفظه السابق لرواية أبي يعلى.
ومدار الحديث على عُمر بن صُبْح: تركوه واتهموه بالكذب ووضع الحديث، عياذًا بالله. ينظر ترجمته في “الكامل” لابن عدي (6/ 47)، “ميزان الاعتدال” للذهبي (3/ 206).
وقال ابن ناصر الدين في “جامع الآثار في السِّيَر ومولد المختار” (3 /299 ط: وزارة الأوقاف القطرية): “وهو حديثٌ منكر جدًّا مطروح، ومداره على أبي نعيم عمر بن صُبح بن عمران التميمي، وهو هالكٌ ذاهبٌ، اعترف على نفسه بالوضع. وله طريق أخرى مظلمة”، فذكرها إلى شداد بن أوس رضي الله عنه، ثم قال ابن ناصر: “وهو حديثٌ منكرٌ لا يثبت مثله” أهـ.
فائدة: البوصيري في “الإتحاف” إنما يذكر زوائد “المسند الكبير” لأبي يعلى، الذي رواه عنه ابن المقرئ، كما ذكر البوصيري في مقدمة كتابه (1 /56)، وذكر إسناده إليه في نهاية كتابه أيضًا (8 / 280- 281)، وقال في ترجمته لأبي يعلى في صدر كتابه (1 / 62): “وقد خَرَّجَ لنفسه معجمًا في ثلاثة أجزاء، ومسندًا كبيرًا سَمِعَهُ كلَّهُ ابنُ المقرئ” ا.هـ. وهذا المسند الكبير لأبي يعلى: قد وصفه الذهبي في “سير أعلام النبلاء” (14 / 180) بأنه “كبيرٌ جدًّا”، بخلاف المسند الذي يرويه ابنُ حمدان عن أبي يعلى فوصفه الذهبي بأنه “مختصرٌ”، وهذا المختصر هو المطبوع المتداول الآن. وقد سبق ونبهتُ على هذا في تعليقي على “الكامل” لابن عدي (يسر الله نشره قريبًا).
فائدة أخرى: وقوله في الحديث: “مِدْرَهُهُم”: قال ابن فارس في “المقاييس” (2 /271): “(دَرَهَ) الدالُ والراء والهاء ليس أصلًا؛ لأنَّ الهاءَ مُبْدَلَةٌ مِن همزةٍ. يُقال: دَرَأَ أيْ طَلَعَ، ثم يُقْلَبُ هاءً؛ فيُقال: دَرَهَ. وَالْمِدْرَهُ: لسانُ القومِ والمتكلِّمُ عنهم” أهـ. وهذا أصلٌ مفيدٌ لما يُعرف في عصرنا بـ “المتحدِّث الرسمي” عن الحكومات والهيئات.
تنبيه: الكلام هنا على ضعف نسبة هذا الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم، بهذا اللفظ، لكن لا جدال في طهارة جناب النبي صلى الله عليه وسلم، من عبادة الأوثان أو السجود لها، كما اشتهر في الناس آنذاك، وحاشاه مِن هذا، فقد طَهَّرَ الله جانبه مِن هذا كله، بأبي هو وأمي صلوات الله وتسليماته عليه.
[12] وهو المشهور عن عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله لأبرهة ملك الحبشة حين جاء لغزو الكعبة، وسأله عبد المطلب إبله ولم يسأله الرجوع عما عزم عليه من غزو الكعبة، فتعجَّب منه أبرهة وسأل عبد المطلب عن ذلك، فأجابه بقوله الذي ذكره الإمام ابن قتيبة، وهو مشهور عن عبد المطلب بلفظ: “للبيت رب يحميه”. وانظر: “كشف الخفاء” للعجلوني (2 /181).
[13] وهو ابن قُتَيْبة.
[14] يريد “أنه صلى الله عليه وسلم كان على دين قومه أربعين سنة”، كما ذكره ابن قتيبة في كتابه قبل كلامه الذي هنا.
[15] “تأويل مختلف الحديث” لابن قتيبة (ص /232 ت: الهلالي ط: دار ابن عفان ودار ابن القيم).
[16] مكان في طريق التَّنْعِيم، ويقال: وادي، كذا في “فتح الباري” لابن حجر العسقلاني (7/ 143).
[17] أخرجه البخاري (3826).
[18]أي خرج خارج أرضِهم.
[19] رواه البخاري (3828).
[20] أي لم يَلْبَث، يريد أنه لم يمكث كثيرًا بعد ذلك حتى تُوفي.
[21] أخرجه البخاري (4)، ومسلم (160).
[22] “فتح الباري” لابن حجر (1/ 25).
[23] وقد سبق قول جدِّ النبي صلى الله عليه وسلم: “للبيت رب يحميه”.
[24] قال النووي في “شرح صحيح مسلم”: “وَأَمَّا (التَّحَنُّث) بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَة وَالنُّون وَالثَّاء الْمُثَلَّثَة فَقَدْ فَسَّرَهُ بِالتَّعَبُّدِ وَهُوَ تَفْسِيرٌ صَحِيحٌ” أهـ.
وقال ابن حجر العسقلاني في “فتح الباري بشرح صحيح البخاري”: “قَوْله: (فَيَتَحَنَّث) هِيَ بِمَعْنَى يَتَحَنَّف، أَيْ: يَتَّبِع الْحَنِيفِيَّة وَهِيَ دِين إِبْرَاهِيم، وَالْفَاء تُبْدَل ثَاء فِي كَثِير مِنْ كَلَامهمْ. وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَة اِبْن هِشَام فِي السِّيرَة (يَتَحَنَّف) بِالْفَاءِ، أَوْ التَّحَنُّث إِلْقَاء الْحِنْث وَهُوَ الْإِثْم، كَمَا قِيلَ يَتَأَثَّم وَيَتَحَرَّج وَنَحْوهمَا”. وأما قَوْله: “وَهُوَ التَّعَبُّد”: فقال ابن حجر: “وَهُوَ مِنْ تَفْسِير الزُّهْرِيّ كَمَا جَزَمَ بِهِ الطِّيبِيُّ وَلَمْ يَذْكُر دَلِيله” أهـ.
[25] أخرجه البخاري (4)، ومسلم (160).
[26] يريد الكعبة.
[27] يريد الأصنام التي كانت في الكعبة قبل الإسلام، حتى محاها النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم.
[28] أخرجه البخاري (4289)، وأبو داود (2027).
[29] “” (16/ 331).
[30] السابق (16/ 332).
[31] أخرجه مسلم (214). وانظر: “السلسلة الصحيحة”، للعلامة الألباني رحمه الله (رقم 2927).
قال الإمامُ النوويُّ في “شرح صحيح مسلم”: “مَعْنَى هَذَا الْحَدِيث: أَنَّ مَا كَانَ يَفْعَلهُ مِنْ الصِّلَة وَالْإِطْعَام وَوُجُوه الْمَكَارِم لَا يَنْفَعهُ فِي الْآخِرَة؛ لِكَوْنِهِ كَافِرًا، وَهُوَ مَعْنَى قَوْله صلى الله عليه وسلم: (لَمْ يَقُلْ رَبّ اِغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْم الدِّين) أَيْ لَمْ يَكُنْ مُصَدِّقًا بِالْبَعْثِ، وَمَنْ لَمْ يُصَدِّق بِهِ كَافِر وَلَا يَنْفَعهُ عَمَل” أهـ.
[32] “شرح الأشعار الستة الجاهلة” للوزير أبي بكر البطليوسي (1/ 9 – 10).
[33] “شرح المعلقات السبع” للزوزني (ص/ 64 ـ 65).
[34] “مختار الشعر الجاهلي” (شعر عنترة)، لمصطفى السقا (ص/409).
[35] “تاريخ آداب اللغة العربية” لجورجي زيدان (ص/ 26).
[36] رواه البخاري (4953)، ومسلم (160).
[37] رواه أحمد (25302) بإسناد صحيح.
[38] يعني: أبا سفيان.
[39] رواه البخاري (7)، ومسلم (1773).