رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن فلسفة اعداء النجاح

رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن  فلسفة اعداء النجاح
بقلم \ المفكر العربى الدكتورخالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربى الدولى
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
مما لاشك فيه أن الأمة جماعة من الناس يسكنون في بقعة من الأرض تجمعهم أواصر شتَّى، وتربطهم روابط منوعة من الدين واللغة، والعادات والآمال، والمخاوف المشتركة.
هذه الأمة إذا طال عليها الأمدُ دبَّ الفساد إلى بعض مقوماتها؛ وسرى الداء إلى بعض مظاهر وجودها، فقد يطرأ الخلل على عقائدها أو أخلاقها أو لغتها، وقد تتبدل بعاداتها الصالحة عادات سيئة؛ وقد تغير من مثلها العليا، وقد تتفرق بعد اجتماع، وقد تختلف بعد ائتلاف، وقد تتخاذل بعد تعاون إلى غير ذلك مما يمزق وحدتها، ويفرق كلمتها، ويخضد شوكتها، ويذهب ريحها؛ ويوهن قوتها، وقد شاءت حكمة الله ورحمته بعباده ألا يذرَ أمة من الأمم نهبًا لعلل الفناء وبواعث الانحلال، حتى يهيئ لها من أبنائها من ينبهها إلى مكامن الداء، ويصف لها الدواء، ويدعوها جاهدًا مُلحًّا إلى النزوع عن أسباب فسادها ودواعي انحلالها، ويحذرها بغير هوادة مما تتعرض له من سوء المصير إن خالفت عن أمره، وعصت نصحه، وأصرت على ما هي بسبيله من المنكر، وهذا المنبه المصلح إما أن يكون رسولاً، وإما أن يكون غير رسول.
أما الرسول فإن الله يوحي إليه ويرسله إلى الأمة ليدعوها إلى الحق ويحذرها من الباطل، يهيب بها إلى ما يحييها وينهاها عما يميتها؛ يبشرها بالسعادة والقوة والمنعة إن استجابت له، وينذرها الهلاك والفناء إن هي تولت عنه، قال تعالى: ﴿ وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ ﴾ [هود: 3]، وقال تعالى: ﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ﴾ [نوح: 10، 12]، وقال تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [الأعراف: 96]، والله سبحانه وتعالى يؤيد رسله بالآيات ويعضدهم بالمعجزات، لتشهد لهم بأنهم صادقون مرسلون من عند الله، ولتقوم مقام قوله: ((صدق عبادي فيما يبلغون عني)).
وكانت الرسالات في العصور السالفة تتوالى ويتبع بعضها بعضًا، وما من أمة إلا حملها طغيانها وعنادها وحرصها على ما كان عليه الآباء والأجداد على عداوة رسولها، وتكذيبه والتنكُّر له، والإعراض عن نصحه، ورميه بكل ما يتسع له جهدها من ألفاظ السفه والقحة، والفجور.
ولقد تمادى الأمر ببعض الأمم حتى قتلوا أنبياءهم بغير حق، فباؤوا بغضب من الله، وضربت عليهم الذلة والمسكنة، وساروا سِراعًا في طريق الانحلال، وانتهى أمرهم بالفناء المحتم، والهلاك الذي لا مرد له، قال تعالى: ﴿ ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [المؤمنون: 44]، وتلك سنة من سنن الوجود لا تتغير ولا تتبدل، والناس في كل زمان ومكان أعداء ما يجهلون، قال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا ﴾ [الفرقان: 31]، وقال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ﴾ [الأنعام: 112].
وختم الله كتاب الرسالة بهذه السطر المشرق الجميل من رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، الذي أرسله إلى الناس كافة، وجعله خاتم النبيين، وضمن لكتابه الحفظ ولشريعته الخلود، قال تعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾[الحجر: 9].
وعاداه قومه كما عادى سائر الأنبياء أقوامُهم، وقالوا: ﴿ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ﴾ [الطور: 30]، وقالوا: ﴿ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ﴾ [النحل: 103]، وقالوا: ﴿ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ﴾ [الفرقان: 5]، وقالوا: ﴿ وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ﴾ [الزخرف: 31]، وقالوا: ﴿ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ ﴾ [الإسراء: 90 – 93].
ولما دعاهم إلى عبادة الله وحده قالوا: ﴿ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ﴾ [ص: 5]، وقالوا: ﴿ أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا ﴾ [ص: 8]، ولما دعاهم إلى الإيمان بالبعث قالوا: ﴿ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ﴾ [ق: 3]، وقالوا: ﴿ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ ﴾ [الصافات: 16، 17].
هذا وما زالت عداوتهم له تزداد شيئًا فشيئًا حتى أخرجوه من بلده ومسقط رأسه؛ فكتب الله له النصر والتأييد؛ وأظهر دينه على الدين كله.
أما المصلح غير الرسول فهو إنسان دقيق الحس، مُرهف الشعور قوي الإرادة؛ يتأذَّى بما يرى من شر؛ ويألم لما يشاهد من فساد، ويغلب عليه خلق الإيثار والتضحية وحب الحق والخير، ويحس بأن في أعماق نفسه وقرارة قلبه، صوتًا أو شيئًا يشبه الصوت يدعوه ملحًّا إلى أن يجهر بكلمة الحق ولو كره المبطلون، وإلى أن يدعو إلى الخير والصلاح ولو كره الأشرار المفسدون.
هؤلاء المصلحون لا يلتمسون مالاً، ولا يطلبون مجدًا، ولا يحرصون على شهرة.
أما المال فحسبهم ما رزقهم الله من رزق حلال طيب كسبوه بعرق الجبين، وعمل اليمين؛ وهم لا يضنون به إذا دعاهم داعي البذل والتضحية إن علموا أن في بذله طاعة لله ونفعًا لعباده.
وكفاهم ثروةً أنهم مقتدون برسل الله الذين ما منهم إلا من قال لأمته: ﴿ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الشعراء: 109].
وأما المجد فلا يلتمسونه في الدنيا؛ لأن الدنيا باطل، وباطل ما فيها إلا طاعة الله، وفانية فانٍ ما عليها إلا صالح العمل، إنما يلتمسون مجد الآخرة يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، إنما يلتمسون مجد الطاعة الذي يخولهم الدرجات العُلا يوم تجزى كل نفس بما كسبت، ذلك المجد الذي وصفه الله تعالى في قوله الكريم: ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا ﴾ [النساء: 69، 70].
وأما الصِّيت: فإنهم يعلمون علم اليقين أنه ما من مصلح يقوم في أمة جاهلة غبية إلا شوهت سمعته؛ وطعنت في دينه، واتهمتْه في عقيدته ورمته بالزيغ والإلحاد والمروق وقد أسلفنا لك بعض ما قالت الأمم لرسل الله، فكيف بمن ليسوا برسل ولا أنبياء؟ هم يعلمون ذلك حق العلم، ولكنهم لا يبالون أن يضحوا بكل شيء في سبيل مرضاة الله، واستجابة لذلك الضمير الحي الذي يهيب بهم أن يعلوا كلمة الحق، وتلبية لذلك النداء القوي المنبعث من أعماق صدورهم، يدعوهم إلى أن ينصروا الله، ويدافعوا عن دينه الحق مهما يلقوا من مكروه ومهما يقاسوا من شدة ومهما يكابدوا من بلاء، ولا أدري فيما يعاديهم الناس وعلام يحسدونهم وهم في الدنيا كالذُّبالة تضيء للناس وهي تحترق، وكالشمعة تهب حياتها للنور فتمده بذوب حياتها وهي تفنى وتذوب؟
لِمَ يحسدهم الناس، وقد تركوا لهم كل ما يطمع فيه الطامعون في هذه الحياة؛ وأقبلوا على الآخرة يشترونها بكل ما في الحياة من عرَض زائل؟
مضت سنة الله ألا يستجيب للمصلحين سواء أكانوا رسلاً أم غير رسل إلا ضعفاء أممهم، ومن هيأهم الله لقبول الخير والحق، ومن استنارت أذهانهم وبصائرهم فرأوا جمال الدعوة وأبصروا ما فيها من خير فأقبلوا عليها مطمئنين واستمسكوا بها استمساك من يعلم أن سعادته وحياته في اتباعها، ثم لا يرتدون عنها بعد ذلك مهما يلقوا من أعدائهم من عنت وأذًى وإيلام.
أولئك هم الذين يستجيبون للرسل حين وجودهم وهم الذين يستجيبون لأنصار الحق؛ ودعاة الهدى ممن يحملون مصابيح الحكمة والهداية من بعد الرسل، يرفعونها للملأ ليسير على ضوئها المستبصرون، ويعشو إلى نارها ونورها المهتدون.
ولكن فريقًا آخرَ من الأمة يتنكَّر للمصلحين ويناهض دعوتهم بكل ما أوتي من قوة، ويقعد لها كل مرصد، ويصد عنها بكل سلاح؛ لأن أنفسهم المظلمة تُسوِّل لهم أن في هذه الدعوة شرًّا عليهم، وخطرًا يتهددهم فيضيقون بها وينفرون منها.
أولئك هم أعداء المصلحين الذين يرونهم قذًى في أعينهم، وشجًى في حلوقهم، وغصة في صدورهم.
فمن أولئك الأعداء الغافلون؟
أعداء المصلحين هم بعض الأغنياء الذين يرون في دعوة الإصلاح خطرًا على جاههم؛ ونفوذهم وسيطرتهم على الناس، إن دعوة الإصلاح تجنح دائمًا إلى بث روح المساواة والمودة والتراحم بين الناس حتى لا يتخذ بعضهم بعضًا أربابًا من دون الله فالفقير يحب الغني ويحترمه ما دام متمتًعا بعطفه ورحمته وإحسانه، فإن منعه رفده؛ وحرمه معروفه، فلا سلطان له عليه، ولكن فريقًا من الأغنياء مولع أبدًا ببسط سلطانه على الناس فلا تروقهم هذه الدعوة التي تريد أن تذل كبرياءهم، وتتركهم أفرادًا من الشعب لا فضل لأحد منهم على أحد إلا بالعمل الصالح والتقوى.
أعداؤهم الأغبياء الذين لا تتسع عقولهم لإدراك الحقائق التي يجهر بها المصلحون ولا تسمو مداركهم للإحاطة بالخير الذي تنطوي عليه دعوتهم، فيرون فيها ضلالاً وإلحادًا وكفرًا، ويرفعون عقائرهم بكل سبيل، وفي كل نادٍ ينفِّرون الناس من الإصلاح والمصلحين، ويستعدون أولى القوة والسلطان عليهم ليُسكِتوا أصواتهم ويكمِّموا أفواههم، ويخرسوا ألسنتهم، ويحطموا أقلامهم حتى لا يعلو لهم صوت بحق ولا ينطق لسان، ولا يتحرك قلم، ولا يرقوا ذؤابة منبر.
أعداؤهم أسرى الشهوات الذين يخشون أن تَحُول دعوة الإصلاح – إن كتب لها الفوز – بينهم وبين ما يشتهون، فيعملون جادين على إخفات صوت المصلح؛ حتى تموت دعوته في مهدها، ليظلوا هانئين ناعمين متمتعين بشهواتهم الدنيئة وأغراضهم الحقيرة ثم لا يهمهم بعد ذلك شيء، سواء عليهم أفسَدَتْ أمتُهم أم استقامت، أشَقِيَتْ أم سعدت، أماتت أم حيت ما داموا عاكفين على شهواتهم التي تُغذِّي حيوانيَّتهم وتنمِّي بهيميَّتهم، وهم عن الحق غافلون.
أعداؤهم أولئك الذين ظفروا بقسط احترام من العامة الجاهلين، فيخشون أن تثير دعوة الإصلاح الأذهان فيراهم الناس على حقيقتهم، فلا يقرون لهم بفضل ولا يعترفون لهم بسلطان ولا يبايعونهم على طاعة، بل ينظرون إليهم كما ينظرون إلى غيرهم من سواد الناس، وهم حُرَّاص على أن يكونوا معبودين للجماهير، يهتفون بأسمائهم ويصبون القُبَل على راحاتهم ويجعلون لهم مما ذرأ الله من الحرث والأنعام نصيبًا.
أعداؤهم الدجالون الذين يخدعون الناس باسم الدين ليتغفَّلوهم عن أموالهم ليملأوا منها أيديهم وخزائنهم؛ فهم يخافون على مكانهم من الناس وعلى منزلتهم فيهم وعلى ثقتهم بهم أن تذهب فيذهب بذَهابها ما كانوا يحبونهم به من تقديس يدفعهم إلى أن يبذلوا لهم من أموالهم ما يشاءون.
فإذا نجحت دعوة المصلحين نُفِي عنهم ذلك الثوب الزائف وبرزت حقائقهم المخيفة المفزعة فولَّى الناس عنهم فرارًا.
نعم، إذا نجحت دعوة المصلح طارت فروة الحمل عن أجسامهم، وبدَتْ تحتها أنيابُ الذئب ومخالبه، فخافهم الناس وولوا عنهم مدبرين.
أعداؤهم الجُهَّال المدعون للعلم الذين يخشون إذا ظفرت دعوة المصلح بالقبول أن تكشف جهالتهم فيجردهم الناس مما كانوا يخلعون عليهم من الألقاب الزائفة والأسماء الكاذبة والنعوت الباطلة؛ من أجل هذا تجدهم لا يدخرون وسعًا في النيل من المصلحين، ونهش أعراضهم، والتمضغ بلحومهم؛ لينفر الناس من دعوتهم فيخلوا لهم الجو وينعموا بهذه العظمة الكاذبة؛ ولكن الحق لا بد أن ينتصر، والطيب لا بد أن يسطع عبيرُه ويفوح شذاه؛ والشمس لا بد أن يظهر ضوؤها ولو أنكرها العُمْيُ الجاحدون.
أعداؤهم المبتدعون الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله وأدخلوا في دين الله ما هو برئ منه، وأحدثوا فيه ما ليس لهم به علم وأضافوا إليه ما لم ينزل به الله عليهم سلطانًا؛ فإذا دعاهم المصلح إلى الرجوع إلى الدين الحق والوقوف عند حدود ما أنزل الله على رسوله قالوا: وماذا علينا لو أضفنا، إن هي إلا زيادة في الخير؟ تبًّا لكم! وسحقًا لضلالكم! عليكم الوزر والإثم؛ لأنكم ادعيتم لأنفسكم حق التشريع الذي لا يكون إلا لله وظننتم ظن السوء وكنتم قومًا بورًا.
ألم تعلموا أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يدعْ شيئًا يقرب من الجنة، ويباعد عن النار إلا أمر به؛ ولم يَدعْ شيئًا يقرِّب من النار ويباعد عن الجنة إلا نهى عنه؟ فكيف تزعمون أن الخير في تلك الزيادة التي هي من وسوسة الشيطان؟ وقد نهى الله عن الغلو في الدين فقال تعالى: ﴿ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ ﴾ [المائدة: 77]، وإذا كان الله تعالى قد أكمل دينه قبل أن يدعو نبيه إلى الرفيق الأعلى فماذا بقى لكم لتشرعوه بأهوائكم؟ ومن أضلُّ ممن اتبع هواه بغير هدى من الله، سبحانك هذا بهتان عظيم.
أصحاب البدع حرب على المصلحين؛ لأن المصلحين يدعونهم إلى الرجوع إلى الدين الحق الذي أنزله الله على رسوله، وبلغه الرسول الأمين الذي لم يكتم منه حرفًا ولكنهم يأبَوْن إلا أن يتمسكوا بدين الشيطان الذي دعاهم إليه، وزينه في صدورهم فعضوا عليه بالنواجذ، ولم يبغوا عنه حولاً واعتبروه دينًا؛ واعتبروا الاستمساك به صلاحًا وتقًى، والتحذير منه إلحادًا وكفرًا.
ألا لقد ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا!
أعداؤهم المخرِّفون الذين حشوا أذهان العامة بالأوهام والخرافات وهم يحسبون أنهم على شيء؛ فإذا نبههم المصلح إلى أن ما يقولون ليس من الحق في شيء تنكروا له، وقلبوا له حماليقهم، وأصابهم داء الضرائر؛ فأوغروا العامة والسفهاء لينالوا من المصلح ويسلقوه بألسنة حداد؛ ذلك بأن هذه الأوهام والخرافات هي مبلغهم من العلم، فإذا اتضح أنها زائفة وثبت أنها باطلة فقد تجردوا من كل ما يملكون؛ لذلك يأبون إلا الحرص على هذه الأباطيل وإذاعتها في الناس ومحاربة الحق الذي يظهر زيفها، والحق منتصر في النهاية ولو كره المبطلون.
أعداؤهم الجامدون الذين يأبون إلا اتباع ما كان عليه الآباء والأجداد – ولو كانوا لا يعقلون شيئا ولا يهتدون – ويقولون مثل ما قال الأولون: إنا وجددنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون، لقد عاش آباؤك وأجدادك في عصر جهالة جهلاء؛ وأنت تعيش في عصر النور والعرفان؛ ومالك لا تقتدي بهم إلا في هذه الناحية التي تحبط عملك وتذهب دينك، لقد كانوا على كثير من الخلق الكريم فما لك لا تقتدي بهم في أخلاقهم الكريمة وطباعهم المستقيمة؟
لقد كانوا صرحاء مخلصين، فلم لا تكون صريحًا مخلصًا مثلهم؟ لقد كانوا لفرط ثقتهم بالناس يقرضون أموالهم قرضًا حسنًا في سر من الناس؛ لا يلتمسون شاهدًا، ولا يكتبون صكًّا، فمالك لا تقرض الناس شيئًا، وإذا أقرضتهم أقرضتهم بالربا الفاحش بعد أن تلتمس له حيلة تخدع بها البسطاء ليعتقدوا أنه حلال طلق ثم تلتمس الإشهاد وتحرر السفائج والوثائق ثم تستوثق له بعد ذلك بالتسجيل؟
هؤلاء الجامدون المحتذون ألدُّ أعداء المصلحين، يناصبونهم العداء، ويضمرون لهم العداوة والبغضاء ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون.
أعداؤهم سَدَنَةُ الأوثان الذين يأكلون أموال الناس بالباطل ويحلون ما حرم الله ويغرون الناس بالفساد، ويزينون لهم أن ينذروا لغير الله؛ ويلتمسون الخير من غير الله، ويستدفعوا الضر بغير الله. حتى عم الفساد، واستشرى الشر، وقامت للشرك دولة تناهض دولة التوحيد، فإذا قام مصلح يدعو الناس إلى الحق، رأوا الخطر على راحتهم ودعتهم من دعوته، إنهم يظلون وادعين هانئين لا يحركون يدًا ولا يعملون عملاً، ويأتيهم طعامهم رغَدًا من كل مكان، ما دام في الأمة جهلاء أغبياء غافلون يشركون بالله تعالى ويدعون غيره وينسبون النفع والضر إلى أسماء سموها هم وآباؤهم ما أنزل الله بها من سلطان، ويضرعون إلى ثياب وأخشاب يطوفون من حولها ويتمسحون بها ويناجونها، ويشكون إليها بثهم وحزنهم؛ وهم يحسبون أنهم يسمعونهم إذ يدعون أو ينفعونهم أو يضرون، إنهم ألقوا آباءهم ضالين فهم على آثارهم يهرعون.
من أجل هذا يعادي أولئك السدنةُ المصلحَ، ويعملون على كيده والتنكيل به، ولكن الله يدافع عن الذين آمنوا، إن الله لا يحب كل خوان كفور.
أعداؤهم مشايخ الطرق الذين تركوا الصراط المستقيم، واتبعوا السبل فتفرقت بهم عن سبيل الله.
ومعاول هؤلاء في هدم الإسلام أحَدُّ وأشدُّ من معاول ألد أعدائه؛ ذلك أنهم ملوك غير متوجين تطيعهم العامة طاعة عمياء؛ لأنهم يوهمونهم أنهم يطلعون على اللوح المحفوظ؛ وأنهم يستطيعون أن ينقلوهم من سجل الأشقياء إلى سجل السعداء، وأن كل خير يصيب المريد فببركتهم وأن كل شر يعتريه فبغضبهم، إلى غير ذلك من هذه الأكاذيب التي تسود وجوههم يوم القيامة: ﴿ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ * وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ ﴾ [الزمر: 60، 61].
وأشدُّ الناس عداوة للمصلحين هذا الفريق من الناس الذي أكثر الفساد في الأرض وباعد بين الناس وبين الحق؛ واعتبروا أنفسهم شركاء لله يسعدون من يشاؤون ويشقون من يشاؤون، ألا لعنة الله على الكاذبين.
اللهم، إني أتوسل إليك بسَعَة رحمتك، وعظيم قدرتك أن تقي المصلحين شر هؤلاء المفسدين. آمين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *