رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن واجبات القاضى فى الشريعة الإسلامية
رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن واجبات القاضى فى الشريعة الإسلامية
بقلم \ المفكر العربي الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربي الدولي
رئيس الإتحاد العالمي للعماء والباحثين
مما لاشك فيه أن على القاضي واجباتٌ كثيرة في الإسلام، وهي حقوق للمتقاضين من ناحية أخرى، وإذا استثنينا واجبًا أساسيًّا على كل قاضٍ وحاكم في الشريعة الإسلامية، ألا وهو الحكم بأحكام الشريعة الإسلامية؛ فإنه ليس لقاضٍ أن يَحِيد عن النصوص الشرعية في الحياة الإسلامية؛ فإن واجبات القاضي تتمثل فيما يلي:
• ألاَّ يحكم القاضي في قضية من القضايا وقتَ الانفعال النفسي أو العاطفي، أو أي انفعال آخر؛ كالغضب، والجوع، والعطش، بل يختار الوقت المناسب لإجراء القضاء؛ بحيث يكون مطمئنَّ القلب، هادئ النفس، فلا يحكم بين المتخاصمين وهو غضبان؛ لأن الغضب يدهشه.
يقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((لا يَقضينَّ حَكَمٌ بين اثنين وهو غضبان))[1]، وقد قاس الفقهاء على الغضب أحوالاً كثيرة، فاعتبروا: “كل ما شغل فكرَ القاضي عن التأمل، والتدبر، والنظر، حكمه حكم الغضب؛ فلا يجوز للقاضي أن ينظر في القضاء، أو يجلس إليه، وهو في حالة من الجوع المفرط، والعطش الشديد، والوجع المزعج، ومدافعة أحد الأخبثين، وشدة النعاس، والهم والغم، والحزن والفرح” [2].
• التفرغ للقضاء: فلا ينبغي للقاضي العمل بأي مهنة يتعامل فيها مع الآخرين، وتدرُّ عليه ربحًا كالتجارة وغيرها؛ لأن ذلك يؤدي إلى تهاون الناس مع القاضي التاجر ومحاباته؛ طمعًا في ظلمه، فهو شبيه بالهدية والرشوة.
“يقول شريح: شرط عليَّ عمر حين ولاَّني القضاء: أن لا أبيع، ولا أبتاع، ولا أرشي، ولا أقضي وأنا غضبان”[3].
وقد فرض المسلمون لأبي بكر – رضي الله عنه – راتبًا بدل تفرغه للولاية، فقد “حمل أبو بكر الصديق – رضي الله عنه – في اليوم الأول لتوليه الخلافة أقمشتَه، وكان يتعيش من تجارة القماش، وخرج لبيعها؛ فلقيه في الطريق إلى السوق عمرُ – رضي الله عنه – فسأله: أين تريد؟ قال: السوق، قال: تصنع هذا وقد ولِّيت أمر المسلمين؟ قال: ومن أين أُطعِم عيالي؟ قال عمر: انطلق يَفرِض لك أبو عبيدة – وكان أبو عبيدة خازنًا لبيت المال، وهو أمين هذه الأمة كما سمَّاه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فانطلقا إلى أبي عبيدة، فقال: أفرض لك قوت رجل من المهاجرين، ليس بفضلهم ولا بأوكسهم، وكسوة الشتاء والصيف، إذا أخلقت شيئًا رددته وأخذت غيره، فلما حضر أبا بكر الموتُ، قال: قد كنت قلت لعمر: إني أخاف ألا يسعني أن آكل من هذا المال شيئًا، فغلبني، فإذا أنا مت، فخذوا من مالي ثمانية آلاف درهم وردوها إلى بيت المال.
وكان أبو عبيدة خازن بيت المال، قد قدر له أربعة آلاف درهم سنويًّا للنفقة التي ذكرها، فلما جاؤوا بها إلى عمر – رضي الله عنه – قال: رحم الله أبا بكر؛ لقد أَتْعَب من بعده تعبًا شديدًا”[4].
وهكذا ينبغي للقاضي التفرغُ للقضاء، كما طلب عمر من أبي بكر التفرغ للولاية، وألاَّ يعمل أي عمل آخر كالتجارة ونحوها مما له علاقة بالناس ويدرُّ عليه ربحًا في ماله.
• التسوية بين المتخاصمين: يجب على القاضي المسلم أن يُجلس الخصمين أمامه؛ فيسوِّي بينهما، ولا يُحَابِي أحدًا على آخر.
فقد روي أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – وأبي بن كعب، اختصما في حادثة إلى زيد بن ثابت، فألقى زيد لسيدنا عمر – رضي الله عنه – وسادة، فقال عمر – رضي الله عنه -: هذا أول جَوْرك، وجلس بين يديه[5].
فقد مر معنا في دستور القضاء في الإسلام قول عمر لأبي موسى الأشعري – رضي الله عنهما -: “وسوِّ بين الناس في وجهك ومجلسك وعدلك”[6]، ولا يقدح في هذا الواجب – التسوية بين المتخاصمين – مراعاةُ تقديم الخصوم بحسب حضورهم إلى مجلس القضاء، إلا لضرورة يراها القاضي مناسبة كأن يكون أحد الخصمين غريبًا، يقول عمر – رضي الله عنه -: “قدِّم الغريب؛ فإنك إذا لم ترفع له رأسًا، ذهب وضاع حقه، فتكون أنت الذي ضيَّعته”[7].
ولا يقدح كذلك في واجب التسوية بين المتخاصمين تقديمُ القاضي للدعوى المشفوعة بحضور الشاهدين على الدعوى التي لم يُحضِر صاحبُها شهودَه؛ لقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((أكرموا الشهود؛ فإن الله – تعالى – يستخرج بهم الحقوق، ويدفع بهم الظلم))[8].
• الشورى: على القاضي أن يستشير أهل العلم في المسألة التي يتشكك فيها، قال – تعالى -: ﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 43].
ويقول – عز وجل -: ﴿ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ﴾ [آل عمران: 159]، وقد استشار الصحابة بعضهم بعضًا؛ فقد استشار أبو بكر – رضي الله عنه – الصحابةَ في ميراث الجَدَّة، واستشار عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – في حد شارب الخمر، وشاور في حق المرأة على زوجها، فقد روي أن: “كعب بن سوار كان جالسًا عند عمر، فجاءت امرأة، فقالت: يا أمير المؤمنين، ما رأيت رجلاً قط أفضل من زوجي، والله أنه ليَبِيت ليله قائمًا، ويظل نهاره صائمًا في اليوم الحار ما يُفطِر، فاستغفر لها وأثنى عليها، وقال: مثلك أثنَى الخير، قال: واستحيت المرأة، فقامت راجعة، فقال: يا أمير المؤمنين، هل أَعدَيت المرأة على زوجها، قال: وما شكت؟ قال: شكت زوجها أشدَّ الشكاية، قال: أوَ ذاك أرادت؟ قال: نعم، قال: ردُّوا عليَّ المرأة، فقال: لا بأس بالحق أن تقوليه، إن هذا زعم أنك جئتِ تشكين زوجك، أنه يجتنب فراشك، قالت: أجل إني امرأة شابة، وإني لأبتغي ما يبتغي النساء، فأرسل إلى زوجها فجاء، فقال لكعب: اقض بينهما، قال: أمير المؤمنين أحقُّ أن يقضي بينهما، قال: عزمتُ عليك لتقضين بينهما؛ فإنك فهمتَ من أمرها مالم أفهم، قال: فإني أرى كأنه عليها ثلاث نسوة هي رابعتهن، فأقضي له بثلاثة أيام يتعبَّد فيهن، ولها يوم وليلة، فقال عمر: والله ما رأيك الأول أعجب إليَّ من الآخر، اذهب فأنت قاضٍ على البصرة”[9].
• النمو العلمي والمِهنِي والتربوي للقاضي: فمن واجب القاضي المسلم أن يُكثِر من مطالعاته العلمية، ودراساته في القضاء؛ حتى يتسع أُفُقه في المهنة التي تحمَّل أعباءها ومسؤولياتِها أمام الله – تعالى – وأمام الناس، وعليه أن يربِّي نفسه على التقوى والعبادة والزهد، ويصطبر على كل ذلك.
يقول ابن المناصف في تنبيه الحكام:
“واعلم أنه يجب على مَن تولى القضاء، أن يعالج نفسه على أدب الشرع، وحفظ المروءة، وعلو الهمة، ويتوقى ما يَشِينه في دينه ومروءته وعقله، ويحطه عن منصبه وهمته؛ فإنه أهل لأن ينظر إليه، ويُقتَدى به… فليأخذ نفسه بالمجاهدة، ويسعى في اكتساب الخير ويطلبه، ويستصلح الناس بالرهبة والرغبة، ويشدد عليهم في الحق؛ فإن الله تعالى بفضله يجعل في ولايته وجميع أموره فرجًا ومخرجًا، ولا يجعل حظه من الولاية المباهاة بالرئاسة، وإنفاذ الأمور، والالتذاذ بالمطاعم والملابس والمساكن”[10].
تلك هي بعض واجبات القاضي في الشريعة الإسلامية، وهي بالطبع حقوق للناس.
________________________________________
[1] صحيح البخاري بشرح فتح الباري، 16/ 256.
[2] القضاء في الإسلام، محمد أبو فارس، ص 45.
[3] الكافي، ابن قدامة المقدسي، 3/ 441.
[4] كنز العمال، 3/ 128.
[5] بدائع الصنائع، الكاساني، 9/ 494.
[6] تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام، ابن فرحون، 1/ 28.
[7] بدائع الصنائع، الكاساني، 9/ 2041.
[8] الجامع الصغير للسيوطي بشرح المناوي، 1/ 92.
[9] المغني، لابن قدامة، 11/ 397.
[10] تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام، ابن فرحون، 1/ 28 – 29.