صفى الدين ريحان .. شاعر اندمج بمجتمعه فتأثر به و أثر فيه
بقلم محمود عاطف ياسين
صفى الدين ريحان .. شاعر اندمج بمجتمعه فتأثر به و أثر فيه
بالرغم من أني شرفت بلقائه مرة واحدة حين كان لي شرف تقديمه علي المنصة في ندوة شعرية له أثناء دراستي الجامعية إلا أنني لمست في هذا اللقاء قمة تواضع العظماء برغم مكانته و قيمته العالية و بعد ذلك التقيت به من خلال أشعاره و كلماته التي اطلعت عليها لدي بعض الأصدقاء ‘ و لم يدر بخلدي أبدا أنني بعد أكثر من 12 عاما سألتقي به و لكن ـ للأسف ـ بعد رحيله من خلال شرف الكتابة عنه و هو شرف لأنه شخصية أدبية و ثقافية وطنية مخلصة صادقة تأثر بمجتمعه و وطنه بكل مستوياته و امتداداته الجغرافية و القومية و التاريخية فأثر فيه أيما تأثير ليس فقط بكلماته و أشعاره بل حتي بطباعه و صفاته و أخلاقه ‘ إلا أن الشخصية العظيمة التي اتسمت بهذه الصفات لم ينل حقه في التكريم و الاحتفاء في حياته و حتى بعد رحيله من بلده الأول الذي ينتمي إليه الدقهلية التي كانت عشقه الأول حتي أنه الشاعر الوحيد الذي تغني بأمجادها و أفراحها في ديوان كامل خاص بها فكتب لها ” أفراح المنصورة “ ؛ فبالرغم من أنه كان عضوا باتحاد الكتاب بها و عضوا عاملا في أنديتها الأدبية الرسمية و واحدا من أدباءها المرموقين فإنه لم ينل أي تكريم رسمي بعد رحيله من أي جهة ‘ و لكن يكفيه سجله الحافل الذي تركه لأهله و محبيه الذين يعرفون قيمته جيدا فهو عضو جمعية المؤلفين و الملحنين بباريس ‘ و رئيس اتحاد شعراء مصر الحرة ‘ و قد تغني بكلماته عدد من نجوم زمن الفن الجميل لعل أشهرهم الفنان محرم فؤاد كما كان ـ و لا زال ـ لديه رصيد ومكانة خاصة علي المستوي الشعبي و الجماهيري ‘ هذه المكانة لم يصل إليها من فراغ و إنما لأنه اندمج مع مجتمعه و عاش مشاكله و أفراحه و أحزانه بكل تفاصيلها فتمكن من التعبير بصدق عنه فقد تفاعل مع مجتمعه بكل مستوياته بداية من قريته الصغيرة التي نشأ بها و انتمي إليها بكل جوارحه فكتب لها صورة شعرية طويلة باسمها ” سندوب “ منتقدا فيها أوضاعها الاجتماعية السيئة و ما وصلت إليه من ترد في كل شئ محفزا أهلها للنهوض بها وتفاعل مع شباب قريته و أوضاع مركز الشباب بها فكتب لهم ” نادي بلدنا “ ‘ و “من فوق منارة أفريقيا “ شدي بانتمائه لوطنه و امتداده الإفريقي العمق الاستراتيجي له و ريادته للقارة السمراء ‘ و لم يكن صفي الدين مولعا بانتمائه الإفريقي فحسب بل تعدي ذلك لتفاعله مع قضايا أمتيه العربية و الإسلامية فيما يمكن أن نصفه بأنه شاعر يسع قلبه العالم ـ كما وصفه أحد الأدباء ـ فتجده متأثرا بحال الأمة الإسلامية علي مستوي العالم و ساءه ما وصل إليه حال الدول و المجتمعات الإسلامية من معاناة و تكالُب الجميع عليها فتساءل ” أأغني أم أبكي دم؟! “ ‘ و كم سخّر كلماته للتعبير عن هموم قضية فلسطين فجعل من شعره محرابا لانتقاد و دحض ” إسرائيليات “ بني صهيون المزعومة و كشف حقيقتهم و توضيح جرائمهم اللعينة و توفير الدعم الأمريكي الدائم لجرائمهم ‘ بل و انطلق ليؤكد علي هذا الدعم الأمريكي الذي تعدي للسيطرة و النفوذ علي النظام الدولي كله والعالم العربي خصوصا ـ للأسف ـ و جعله يسير ” وفقا الوصايا البنتاجون “ الأمريكي معبرا بكلماته الحادة عن رفضه لهذا النظام الدولي الجائر و عن رفضه لمشروع الشرق الأوسط المزعوم ‘ و يذهب في انتقاده للنظام الدولي لنقطة أكثر تفصيلا مما يبرهن علي أنه كان متفاعلا مع قضايا أمته بشكل كامل مدركا لأدق تفاصيلها حين تجده منتقدا لأهم كيان في النظام الدولي و هو مجلس الأمن و موقفه من تعامله و مواقفه تجاه مآسي و مشكلات البلاد العربية منتقدا نظام حق الفيتو به مؤكدا أن هذا ” الفيتو نكل بالعرب “ و أنه يستخدم فقط ضد مصالح العرب و المسلمين ‘ ثم يعود ليؤكد انتماءه الشديد لعروبته و إسلامه حين يفجر من كلماته تأكيدا واضحا بأن ” القدس مسري أحمد “ معبرا عما يعتريه من ألم شديد لغيابه عن المسجد الأقصي و اشتياقه إليه مطلقا صرخة مدوية مناديا في الملأ إن ” الأقصى يتقصي عني “ آملا أن تجد صرخته أذانا مصغية تحس بما به من ألم و شوق ‘ و مع كل ذلك و قبله تجد ريحان معتزا دائما بوطنه الأم و بمصريته مرددا دائما ” مصر فوق الجميع “ .
هذا الانتماء للوطن و لعمقه الجغرافي و التاريخي و الثقافي ليس بمستغرب علي شخص دخل مدرسة الانتماء و الوطنية الأولي في مصر و كان بطلا من أبطال المقاومة الشعبية بالقوات المسلحة للجمهورية العربية المتحدة ‘ و كان بطلا مشاركا في نضال وطنه و سعيه للانتصار بعد هزيمة يونيو فكان من أبطال القوات الجوية في حرب الاستنزاف .
و لعل ما ميز شخصية ” ريحان ” و إبداعه أن القارئ لشعره و كلماته يدرك تماما أن للشعر عنده مفهوم خاص فهو يرى أن : ” الشعر دعوة خير و سلام مش ارتزاق و لا رص كلام “
و يرى أن ” الشعر هز قصور الجان “ ، و حقيقة فإن ذلك المبدع العظيم لم يكن فقط بارعا و متميزا في الشعر الوطنى و القومى فحسب بل كان بارعا في شتى فروع و مجالات الشعر سواء الرومانسى و العاطفى و حتى التجارب الذاتية ففي الشعر الرومانسى تجده عاشقا حالما مليئا بالمشاعر الجياشة و الحب العذرى كأعظم أبطال القصص الرومانسية و للمرأة عنده قيمة و مكانة خاصة جسدها في شعره بمعان و مفاهيم و تعبيرات خاصة لم يفهمها كثيرون ممن حوله – للأسف – و اتهموه ظلما بأنه ” عدو المرأة “ ، و في شعر الهجاء برع متفردا بأسلوبه الخاص فلم يساويه أو يجاريه أحد فهو هجّاء ” حنجورى “ لا يشق له غبار و في التجارب الذاتية و الوجدانية و الروحية تميز جدا في التعبير عن مكنونات النفس البشرية فهو الذى دق لجبال أحزانه ” أجراس الصمت “ و سعى كثيرا في أشعاره إلى ” الخلاص “ الوجدانى و الروحى و الصفاء الداخلى .
و أشد ما أدهشنى في شخصية هذا العملاق الأدبى أن كثيرين يعرفوه كشاعر عامية و أنا شخصيا حين التقيته التقيته كشاعر فصحى مبدع و متمكن من لغته و هذا إنما يدل على تفرد و تميز خاص فحقيقة الأمر أنه قد تميز في الشعر بنوعيه العامى و شعر الفصحى بأسلوب خاص و تعبيرات تميزت بالبساطة و التمكن فشعر العامية لديه تجده أقرب ما يكون للفصحى ، و الفصحى لديه تجدها بسيطة جدا تقترب من العامية الراقية الأصيلة ما يمكن أن نطلق عليه ” العامية المفصحة ، أو الفصحى المعممة ” فللوهلة الأولى لقراءتك للقصيدة لا يمكنك أن تدرك إذا كانت القصيدة عامية أم فصحى إلا بعد أن تغوص في أبياتها و كلماتها قليلا .
و أخيرا .. فإذا كان لكل شخص من اسمه نصيب فشاعرنا قد حاز نصيبا كبيرا من اسمه فسريرته صافية صفاء السماء و وجهه دائما كان مشعا بالنور و الصفاء حتى بعد رحيله لازالت سيرته تتسم بالصفاء و الصفات العطرة واصطفى الخالق له موهبة خاصة و تميزا و أسلوبا خاصا تفرد به و كلماته تنقلك في عالم من الصفاء الوجدانى و الروحى الذى سعى إليه في كثير من أشعاره و اتسم دائما بصفات الأخلاق و التدين و حمل عبر كلماته دائما هموم دينه ملتزما بقيمه في كل كلماته و تعبيراته فكان حريا به أن يلتصق باسمه معنى التدين و الدين فهو ” صفى الدين “ و حين تسمع كلماته أو تقرأ الصور و اللوحات التي يرسمها بشعره تشعر و كأنك وسط حديقة غناء تشتم منها أجمل رياحين الإبداع و التعبيرات العذبة الرقيقة و كأنك وسط حديقة مليئة بالورود و الريحان و الياسمين فكان جديرا أن يكون هو زهرة من هذا البستان فكان هو عود الـ ” ريحان ” إنه الشاعر العملاق و عود الريحان الذى لن يذبل أبدا ” صفى الدين ريحان “