فى طريق النبوه ومع نبى الله أيوب عليه السلام

بقلم / محمــــد الدكـــــرورى

واذكر عبدنا ورسولنا أيوب عليه السلام مثني عليه، ورافعًا لقدره حين ابتلاه الله عز وجل بهذا البلاء الشديد فوجده صابرًا، وراضيًا عليه السلام، وذلك أن الشيطان تسلط عليه، وتسبب في ابتلاء في جسد هذا النبي الشريف، وامتحن، فتقرح قروحًا عظيمة، واشتد بلاؤه مدة طويلة، والله سبحانه وتعالى لم يذكر لنا ابتلاؤه بالتفصيل ، ويرجع نسب هذا النبي الكريم إلى نبى الله إسحق بن إبراهيم عليهما السلام .

وأما عن زوجته هى ، ليا أو رحمة ، ويقال أن اسمها ليا ابنة آفرايم بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق عليهم السلام، وقد سماها ابن عساكر ، رحمة الله تعالى على الأرجح، وكانت ذات جمال وحسب ونسب وعِلم، أهّلَها لأن تكون الزوجة التقية النقية والقادرة على تحمُّل الابتلاء والصبر على مرض الزوج وفقد المال والأولاد، فما شكت وما جزعت ، إنها الصابرة العفيفة الخدومة.

لذلك لا تُذكر قصة “رحمة ” إلا وكانت مقترنة بقصة أيوب عليه السلام ولا تُذكر قصة أيوب عليه السلام إلا وذكرت قصة زوجته الصابرة العابدة المخلصة لزوجها ودينها والتي تُعطي لكل زوجة درساً في الإخلاص لزوجها والصبر على تحمُل المحن.

وتزوجت رحمة ، أيوب عليه السلام وله من المال الوفير والعُمال الكُثر والأراضي الشاسعة، ورزقها الله تعالي من البنين والبنات ما تقر بها عينُها، ولا تحزن فكان أيوب أحد أغنياء الأنبياء، وأوسع الله عليها وعلي زوجها من الرزق شيئاً مباركاً وفضلهما على كثير من خلقه، ولكن هؤلاء جعلوا الدنيا في أيديهم وليس في قلوبهم، وكانت رحمة ، قد آمنت مع أيوب وبدعوته إلي الله .

وقصة النبي أيوب عليه السلام جاءت في سورة الأنبياء على النحو التالي: ( وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين * فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين ) سورة الأنبياء .

وقد كان نبى الله أيوب عليه السلام ، براً تقيا ورحيما يُحسن إلي المساكين والأرامل ويكفل الأيتام وقد قيل لا يأكُل الطعام إلا معهم ، فأرد الله تعالي أن يختبر أيوب في إيمانه ، فأنزل الله به البلاء فكان أول ما نزل عليه هو ضياع ماله وجفاف أرضه، حيث احترق الزرع وماتت الأنعام ولم يبق له شيء يلوذ به ويحتمي فيه غير إعانة الله تعالي .

فكان صابراً شاكراً محتسباً فخرّ ساجداً لله رب العالمين، ونزل الابتلاء الثاني فمات أولاده كلهم فحمد الله أيضاً وخرّ ساجداً، ثم جاء الابتلاء الثالث بأيوب فأصابه المرض وذهبت عافيته ووهن جسمه .

وأخبرنا الله سبحانه وتعالى عن عبده ورسوله أيوب عليه السلام، وما كان ابتلاه به من الضر في جسده، وماله، وولده، حتى لم يبق من جسده مغرز إبرة سليماً سوى قلبه، ولم يبق له من حال الدنيا شيء يستعين به على مرضه وما هو فيه، غير أن زوجته حفظت ودَّه ، لإيمانها بالله ورسوله، فكانت تخدم الناس بالأجرة، وتطعمه، وتخدمه نحواً من ثماني عشرة سنة.

وظلت رحمة في خدمة زوجها أيام المرض حتى ارتقت زوجة أيوب عليه السلام منزلة عالية مباركة ومكاناً رفيعاً في منازل الأبرار عاشت مع زوجها محنته، ولهذا وصفها بن كثير بقوله الصابرة والمحتسبة رضي الله عنها على الرغم أن الشيطان كان يوسوس لها دائماً بقوله: لماذا يفعل الله هذا بأيوب، ولم يرتكب ذنباً أو خطيئة .

فكانت تدفع عنها وساوس الشيطان وتطلب من الله أن يُعينها على ذلك، ولكنها قالت: لأيوب ذات مرة يا أيوب أنت نبي الله ومستجاب الدعوة ألا تدعو الله أن يرفع عنك البلاء، قال أيوب:يا امرأة لقد عشت من عمري سبعين عاماً في نعيم وفضل من الله، ومرضُت ثماني عشرة سنة ولو أني مرضت مثلهم وقتها أسأل الله .

وقد كان رفضه القريب والبعيد، سوى زوجته رضي الله عنها، فإنها كانت لا تفارقه صباحاً ولا مساء إلا لخدمة الناس ثم ما تلبث أن تعود لخدمته ورعايته والقيام على شأنه ، ولما طال عليه الأمر، واشتد به الحال، وانتهى القدر المقدور، وتم الأجل المحدد تضرع أيوب إلى ربه قائلاً: (أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين )، فعند ذلك استجاب له أرحم الراحمين، وأمره أن يقوم من مقامه .

وأن يضرب الأرض برجله، ففعل، فأنبع الله عيناً، وأمره أن يغتسل منها، فأذهب جميع ما كان في بدنه من الأذى، ثم أمره فضرب الأرض في مكان آخر، فأنبع له عيناً أخرى، وأمره أن يشرب منها، فأذهبت ما كان في باطنه من السوء، وتكاملت العافية ظاهراً وباطناً ، ولهذا قال تعالى: ( اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب ).

وكان الضر من جميع الجهات ضرر في بدنه وماله وأهله، حيث اجتمعت على أيوب أصناف البلاء لم يكن في جهة واحدة، وإنما كان في جهات متعددة هذا الابتلاء، والبلاء إذا ركب على الإنسان أنواعًا فإنه سيكون شديدًا عليه، فتوسل إلى الله بالإخبار عن نفسه، وإن أيوب عليه السلام لم يطلب من الله كشف الضر، ولكنه أراد أن يرسل رساله الى الله عز وجل بالتوسل إليه .

وهنا قال الله عز وجل فاستجبنا له، وماذا يعني؟ أن الطلب لم يذكر طلبًا هنا، لأن أيوب عليه السلام لم يقل اكشف ما بي ارفع عني، ولكن توسل إلى الله بشكوى حاله، وشكوى الحال إلى الله كافية، والمعنى واضح أنه يسأل ربه أن يرفع عنه ما أصابه، وهذا الموضع فيه استجابة الله سبحانه وتعالى لنبيه والسياق سياق رحمة بالأنبياء، ورعاية لهم في الابتلاء، سواء كان الابتلاء بتكذيب أقوامهم لهم، كما في قصص إبراهيم، ولوط، ونوح، أو كان ابتلاء بالنعمة كما في قصة داود، وسليمان، أو بالضر كما في قصة أيوب.

وقال ابن القيم رحمه الله معلقًا على دعاء أيوب عليه السلام: “جمع هذا الدعاء بين حقيقة التوحيد، وإظهار الفقر والفاقة إلى ربه، ووجود طعم المحبة في التملق، والإقرار له بصفة الرحمة، وأنه أرحم الراحمين، والتوسل إليه بصفاته سبحانه، وشدة حاجته هو وفقره، ومتى وجد المبتلى هذا كشفت عنه بلواه .

قال تعالى: (وآتيناه أهله ) ، أى رددناهم إليه، ورفع الضر عنهم، فصار معافى في بدنه، وعاد إليه أهله، وجاء إليه رزقه، ووهبه الله من الأبناء ما وهبه، قال تعالى: ( ومثلهم معهم رحمة من عندنا ) وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: ( وآتيناه أهله ومثلهم معهم )، قال: ” ردَّ الله تعالى امرأته إليه، وزاد في شبابها، حتى ولدت له ستاً وعشرين ذكراً ” .

لأنه صبر ورضي فنالته رحمة الله، وأثابه الله ثوابًا عاجلاً في الدنيا قبل الآخرة، رحمة ومنة من الله عليه، ( وذكرى للعابدين ) وجعلناه عبرة للعابدين الذين ينتفعون بالعبر، فإذا رأوا ما أصابهم من البلاء، ثم ما أثابه الله بعد زواله، ونظروا ما السبب، ووجدوا هذا الصبر، ووجدوا هذه الإجابة كان ذلك عبرة لهم، فهم يتعظون بما أصاب أيوب عليه السلام.

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ” إن نبي الله أيوب عليه السلام لبث به بلاؤه ثماني عشرة سنة، فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين، كانا من أخص إخوانه به، كانا يغدوان إليه ويروحان، فقال: أحدهما لصاحبه: تعلم والله لقد أذنب أيوب ذنباً ما أذنبه أحد من العالمين.

فقال له صاحبه: وما ذاك؟ قال: من ثماني عشرة سنة لم يرحمه الله، فيكشف ما به، فلما راحا إليه، لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك له ، فقال أيوب: لا أدري ما تقول، غير أن الله يعلم أني كنت أمُرُّ على الرجلين يتنازعان، فيذكران الله عز وجل، فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما، كراهية أن يذكرا الله إلا في حق.

قال: وكان يخرج إلى حاجته، فإذا قضاها أمسكت امرأته بيده حتى يبلغ، فلما كان ذات يوم أبطأ عليها، وأوحى الله تعالى إلى أيوب عليه السلام، أن ( اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب ) فاستبطأته، فتلقته تنظر، فأقبل عليها، قد أذهب الله ما به من البلاء، وهو على أحسن ما كان.

فلما رأته قالت: أي بارك الله فيك ، هل رأيت نبي الله هذا المبتلى ، فوالله على ذلك ما رأيت رجلاً أشبه به منك، إذ كان صحيحاً ، قال: فإني أنا هو ، قال: وكان له أندران: أندر للقمح، وأندر للشعير ، ومعنى الأندر:أى البيدر ، فبعث الله سحابتين، فلما كانت إحداهما على أندر القمح، أفرغت فيه الذهب حتى فاض، وأفرغت الأخرى في أندر الشعير حتى فاض.

وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بينما أيوب يغتسل عرياناً، خرَّ عليه جراد من ذهب، فجعل أيوب يحثو في ثوبه، فناداه ربه، يا أيوب ، ألم أكن أغنيتك عما ترى؟ قال: بلى يا رب، ولكن لا غنى بي عن بركتك) .

ولهذا قال تعالى: ( ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولي الألباب )، قال الحسن وقتادة: أحياهم الله تعالى له بأعيانهم، وزادهم مثلهم معهم. قال أبو حيان: “والجمهور على أنه تعالى أحيا له من مات من أهله، وعافى المرضى، وجمع عليه من شُتِّت منهم”.

وأما عن قوله تعالى: ( وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث ) ، فذكروا أن أيوب عليه السلام كان قد غضب على زوجته، ونقم عليها في أمر فعلته ، وقيل: إنها باعت ضفيرتها بخبز فأطعمته إياه، فلامها على ذلك، وحلف إن شفاه الله ليضربنها مائة جلدة.

وقيل: لغير ذلك من الأسباب ، ويقال كان سبب الضرب، والأقرب إلى الصواب أن أيوب أرسل امرأته في حاجة له، فأبطأت عليه، فأقسم أنه إذا برئ من مرضه ليضربنها مائة ضربة .

فلما شفاه الله وعافاه، ما كان جزاؤها مع هذه الخدمة التامة والرحمة والشفقة والإحسان أن تُقَابَل بالضرب، فأفتاه الله عز وجل أن يأخذ ضغثاً ، أي: حزمة أغصان كثيرة ، فيه مائة قضيب، فيضربها بها ضربة واحدة، وقد برت يمينه، وخرج من حنثه، ووفى بنذره، وهذا من الفرج والمخرج لمن اتقى الله وأناب إليه؛ ولهذا قال تعالى: ( إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب ) أي: رجَّاع منيب للحق.

وهناك توضيح وهو ، أنه عليه السلام ابتلي، ولكن بلاءه لم يصل إلي حد هذه الأكاذيب التى تقال ، من أنه أصيب بالجذام، وأن جسمه أصبح مُقرَّحا، وأنه أُلقي على كناسة بني إسرائيل، يرعي في جسده الدود وتعبث به دواب بني إسرائيل أو أنه أصيب بمرض الجدري .

فحاشا لله الحق أن نبى الله أيوب عليه السلام ، أكرم من أن يُلقي على مزبلة أو يصاب بمرض يُنفر من دعوته، أو يُقززهم منه، وأن ما أُصيب به أيوب من مرض إنما كان من نوع غير منفر، ولا مقزز، ولكنه على الرغم من ذلك ما ازداد إلا إيمانا وكلما اشتد عليه المرض ازداد شكراه لله تعالي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *