الأديب الكاتب، والباحث الصحفي، والمفكر العربي والإسلامي
الأستاذ الدكتور/ جمال عبد الناصر محمد عبد الله أبو نحل
رئيس المركز القومي لعلماء فلسطين، والأستاذ الجامعي غير المتفرغ
الأمين العام لاتحاد المثقفين والأدباء والكتاب والعرب فرع فلسطين
عضو مؤسس في الاتحاد الدولي للأدباء والكتاب و للمثقفين العرب
رئيس الهيئة الفلسطينية للاجئين، وعضو الاتحاد الدولي للصحفيين
dr.jamalnahel@gmail.com
اسِّتُوقّفَنِا في الطريق صديق وزميل دراسة قديم، ونحن نمارس رياضة المشي اليومي ليلاً، وكُنا سَائّرين ناحية شارع البحر شمال قطاع غزة، لنَبتّعدْ ونسّرحْ بعيداً، ولو لوقتٍ قليل عن ضغط الحياة، والساسة، والسياسة، ومواقع التواصل الاجتماعي،
وعن ضغط الُدنيا، ومشاغلها، ومشاكلها، فنَّتَأمل في السماء وسّعِتها، وفي القمرِ إذا اِّتسَقْ، والليل وما وسق، والنجوم التي تتلألأ في كبد السماء، وفي البحر الهدار والموج الغدار،
وبالأيام كيف تجري بنا مُسرعةً، ولِنتدّبر في عظمة الخالق سبحانهُ وتعالى، ونُمِعنْ التفكير في ما آلت له أحوال البلاد، والعباد خاصةً في فلسطين، وفي الوطن العربي عموماً؛
ولقد أغّرِوروت مُقلتي بالدموع، حينما علمت بأن صديقي هذا، والذي يحمل الشهادات العُليا، والذي كنا نحن، وهُو قبل أكثر من عقد من الزمن طُلاب في الدراسات العليا (الدكتوراه)،
ونَدّرُس في أكبر، وأعرق الجامعات المصرية، وكان تخصصه إدارة أعمال، أتعلمون ماذا يعمل؟؛ وجَّدتُه يعمل سائق أجُره علي سيارة!؛ علماً أنه موظف، ولكن ماذا يفعل في ظل توقف رواتب موظفي السلطة الوطنية الفلسطينية للشهر الثالث علي التوالي!!؛
وإِن العمل بالطبع ليس عيباً، ولا حراماً، وما العَيّب إلا ما كان عيباً؛ بل إن النبي صل الله عليه وسلم قال: “لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره خير له من أن يسأل أحدًا فيعطيه أو يمنعه”؛
واليوم ما أكثرُهم ممن يحملون الشهادات العليا في غزة تحديداً، وتجدونهم يعملون أما سائق سيارة بالأُجرة، أو عامل، ويتقاضي راتب يومي لا يتجاوز العشرة دولارات!،
هذا في أحسن الأحوال إن توفرت له فرصة عمل ومنهم من قد يعمل براتب شهري لا يتجاوز مبلغ المائة دولار أمريكي!!؛ وإن ما يُدّمِي القَلبْ ويندي له جبين الإنسانية، وتحار منهُ القلوب،
ويصبح الحليم حيران هُو فعل، وصنيع بعضاً من أدعياء الوطن، والوطنية، ومن أدعياء الإسلام أيضاً؛ فَّبعضاً منهمُ وإن لم يكن أكثرهُم يقولون ما لا يفعلون، ويأمرون الناس بالصبر، والمثابرة،
والصلاة والإيمان وبشدْ الأحزمة علي البطُون، ويَّدعُون عِدل عمر رضي الله عنه، ولكن أفعالهم كقارون، وكابي جهلٍ وأبي لهب!!؛؛ وتراهُم وكل حظيرتهم، وحاشّيَتهُم وأبنائهم وذُريَتّهم يتلذذون ويتقلبون في الخيرات والنعيم، الدُنيوي، ويلبسون الحِلْ، والحرير،
ويمتلكون العقارات، وملايين الدولارات، ويأكلون الأخضر، واليابس، ويبتلعون أموال الدعم التي تأتي للوطن والمواطن، ويَّستحلون الحرام، ويأكلون أموال الناس بالباطل في بطونهم التي انتفخت فتكّرشَت حتى أصبحوا كأنهم بلا رقبة من كثرة المال، والسمُنة!؛
وقد تاجروا في الوطن، وزهدوا فيهِ، وبَاعوهُ بثمنٍ بخسٍ وكانوا فيهِ من الزاهدين!؛ علمًا أنهم أمام العالم وجميع وسائل الإعلام تراهم يهللون بحب الوطن، ويطبلون، ويتكلمون بالشعارات والخطب الوطنية، والثورية الحماسية، وبالخطب الدِّيِنَّية الرنانة،
وأنهم ضد الاحتلال الخ.., وحينما تتفكر في أحوال عِّليِة كبار القوم من أغلب تلك الزعامات، والأمُراء والسادة، والقادة وأصحاب الحِل والعقدْ، ستبصر حولهم جماعة ممن دخلوا الحظيرة ليأكلوا من الفطيرة،
من بطانة السوء، أولئك هُم الأفاقين المنافقين الدجالين الطبالين من الحاشية الفاسدة المستفيدة، فّيُزينون للمجرمين واللصوص سوُء أعمالهم!؛ بينما تري الشعب المكلوم المغلوب علي أمره في واد، وأُولى الأمر في واد أخر، وفي كوكب أخر؛
حيثُ العُمال بلا عمل، وشباب ضائع من غير مستقبل، وعنوسه كبيرة فالفتيات، والشباب عزوبية من غير زواج، والسبب البطالة والفقر والأموال المنهوبة، وعندنا ألوٌف مؤلفة من خريجين الجامعات من غير عمل، وضمن جيش البطالة!؛ وأرامل وأيتام،
وتكالي، وموظفين فقراء بالكاد كان الراتب يكفيهم أصبحوا بلا راتب!؛ وتري جيش من المتسولين!؛ ويا أسفاه علي الطفولة الضائعة على أرصفة الطرقات، لأطفال في عُمر الزهُور يتَّسَوُلُونْ!؛ ومرضي بلا علاج، ووطنُ ضائع ومواطنٌ مقهُور، وحصار يتبعه حروب ودماءٌ ودموعٌ، ودمار، وغبار، وضاع الحب، وانطفأت، وانّكَفأت قُدور السلام، وحَل وعَم وطمْ الفقر المدقع، والظلمُ الموُجّعْ!؛ ورحلت النفوس، وأوحلت، وتخلّتْ، وأوحشت، وتوحشت، وحشت، وتحشرجت،
وجُرِحت، وظُلمت، وحرمت وفَرِّمت، وهّرَمَتْ، وأرِمَتْ وهزمت وهزت وقهرت وأوكّسَتْ، وزلزلت زلزالها، وفعلت أهوالها بالأبرار الأحرار الشرفاء المناضلين والمجاهدين، وضاع الحق، وحقوق الإنسان والمواطنة، والعدالة الاجتماعية، وساد البغي والظلم، والمحسوبية، وشاع الكذب ممن يتقلدون المناصب الكبرى حتى في العلن،
وأمام وسائل الإعلام المسموعة والمرئية تجدهُم يكذبون!؛ ونحن نعيش زمان اعتلى فيه، واحتل أعلي مَناصب الحظيرة من النِّعاج فَّأثاروا العُجَاجْ، وأعظم وصف لما نحن فيه اليوم هو الحديث الصحيح الذي يرويه الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صل الله عليه وسلم قال:
” سيأتي على الناس سنوات خدّاعات، يُصَدق فيها الكاذب ويُكذَّب فيها الصادق، ويُؤتمن فيها الخائن ويُخوَّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة قيل، وما الرويبضة يا رسول الله ؟
قال : الرجل التافه يتكلم في أمر العامة”، ولسان حال المجرمين يقول: لن يدخل الحظيرة ليأكل من الفطيرة، من كان من المتعففون الطاهرون المثُقفون من الأدباء أصحاب الأخلاق الحميدة المتعُلمون العَالمِون، العامِلُونْ، المناضلون الوطنيون المجاهدون، فأولئك لا مكان لهم في الحظيرة القذرة!؛ وذلك لأنهم أُناس طاهرون،
من القادة “عُلِّيَّةِ الْقَوْمِ”، فَخذوا ما شئتم من مناصب الدنيا وأغلقوا الحظيرة وكلوا الفطيرة كُلها لوحدكم، واظّلِمُوا واقهروا رعيتكُم من الشعب المظلوم ممن وُليتم أمرهم،
ويا أيها السادة، والقادة اجمعوا في الدنيا كل المناصب، والأموال من الذهب، والفضة، والدراهم والدنانير والدولارات، وخذوها معكم حين الموت لتكون وسادة من نار جهنم تحت رؤوسكم في قبوركم!؛ قُّبُورنا تُبّنى، وما تُبّنَا، يا ليتنا تُّبنَا قَبّل أن تُبنّى.