نسائم الإيمان ومع الصحابى عمرو بن العاص

بقلم / محمــــد الدكـــــرورى

عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم، ويُكنى أبا عبد الله، وقد ولد قبل هجرة الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم بسبعه وأربعون عامًا، ونشأ في ظل والده العاص بن وائل ، معاديًا للإسلام والمسلمين ، وكان من فرسان قريش وأبطالهم في الجاهلية مذكورا بذلك فيهم، وكان شاعرا حسن الشعر.

وهو الصحابي الجليل والفاتح والقائد العسكري الذي فتح الله على يديه مصر، عمرو بن العاص ، وكان والده العاص واحدا من سادات قريش، وكان من الذين ناصبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، العَداء، واشتغل بالتجارة أول حياته، ونشأ في بيئة أعدته ليكون قائدا لا يُشق له غُبار .

وكان سفير قريش في الجاهلية إلى ملك الحبشة ليعيد المسلمين إليها، ولكنه لم يستطع، وقاتل المسلمين حين كان مشركا في أُحُد والأحزاب، ولكنه أسلم في العام الثامن للهجرة، وجاء إسلامه بعد اقتناع وإيمان وتفكير عميق، ووصف ذلك النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم بقوله: ” أسلم الناس وآمن عمرو بن العاص ” .

وقد أسلم عمرو بن العاص ، رضي الله عنه في العام الثامن للهجرة، وقد تجاوز الخمسين من عمره ، ولما أسلم كان النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم يقربه ويدنيه لمعرفته وشجاعته، ومنذ إسلامه صار عمرو بن العاص رضي الله عنه ، محلّ ثقة النبي الكريم محمدعليه الصلاة والسلام ، في أمور كثيرة وكبيرة .

فقد كان قائدًا لسريّة ذات السلاسل وأدّى ما عليه في هذه السرية بنجاح منقطع النظير، وكذلك شهد غزوات كثيرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كغزوة حُنين وحصار الطائف وفتح مكة.

وقد أمده النبى الكريم محمد صلى الله عليه وسلم فى غزوة ذات السلاسل ، بأبي بكر الصديق وعمربن الخطاب وأبي عبيدة عامر بن الجراح، ثم استعمله على عُمان فمات وهو أميرها، ثم كان من أمراء الأجناد في الجهاد بالشام في زمن عمر، وهو الذي افتتح قِنَّسْرِين، وصالح أهل حلب ومَنبِج وأنطاكية، وولاّه عمر بن الخطاب فلسطين.

وقد قال رجل لعمرو بن العاص رضي الله عنه: أرأيت رجلا مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحبه، أليس رجلا صالحا؟ قال: بلى. قال: قد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحبك، وقد استعملك .

فقال: قد استعملني، فوالله ما أدري أحبا كان لي منه أو استعانة بي، ولكن سأحدثك برجلين مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو يحبهما: عبد الله بن مسعود، وعمار بن ياسر رضي الله عنهما.

وعمرو بن العاص رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ” كل بني آدم يأتي يوم القيامة وله ذنب إلا ما كان من يحيى بن زكريا “. قال: ثم دلَّى رسول الله يده إلى الأرض فأخذ عودًا صغيرا، ثم قال: “وذلك أنه لم يكن له ما للرجال إلا مثل هذا العود ، ولذلك سماه الله سيدا وحصورا ونبيا من الصالحين “.

وكان من موقفه من المهاجرين المسلمين إلى الحبشة، حين أرسلته قريش لردهم من أبرز مواقفه ضد المسلمين في جاهليته ، إذ حينما علم كفار مكة بهجرة المسلمين إلى الحبشة، قاموا على الفور بإرسال عبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي وعمرو بن العاص بن وائل السهمي إلى الحبشة، محمَّلا بالهدايا إلى النجاشي ، ليرد إليهم المسلمين .

فقال عمرو بن العاص للنجاشي: ” أيها الملك، إنه قد صبأ إلى بلدك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم ، فهم أعلى بهم عينًا، وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه “.

فرفض النجاشي الملك العادل ما طلبوا حتى يسمع من المسلمين ليحكم بينهم، ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله فدعاهم، فقال: “ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا في دين أحد من هذه الأمم؟” فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه .

فقال له: “أيها الملك، كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نحن نعبد وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان .

وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به، فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئًا، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا

فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وشقُّوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا ، وخرجنا إلى بلدك واخترناك على من سواك ورغبنا في جوارك ورجونا أن لا نظلم عندك، أيها الملك “.

فقال له النجاشي: “هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟” فقال له جعفر: نعم. فقال له النجاشي: ” فاقرأه عليَّ ” فقرأ عليه صدرا من سورة مريم ، كهيعص ، فبكى النجاشي حتى أَخضل لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم ، ثم قال النجاشي: “إن هذا والله والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا فوالله لا أسلمهم إليكم أبدا، ولا أكاد”.

فلما خرجا من عنده قال عمرو بن العاص: ” والله لأنبئنَه غدا عيبهم عندهم، ثم أستأصل به خضراءهم ، والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم عبد”. ثم غدا عليه الغد، فقال له: “أيها الملك، إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولا عظيما، فأرسل إليهم فاسألهم عما يقولون فيه “.

فأرسل إليهم يسألهم عنه، فقال له جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه: ” نقول فيه الذي جاء به نبينا: هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول”. فضرب النجاشي يده إلى الأرض فأخذ منها عودا، ثم قال: ” ما عدا عيسى بن مريم ما قلت هذا العود ” فتناخرت بطارقته حوله حين قال ما قال .

فقال: “وإن نخرتم والله، اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي أى آمنون فى بلدى، ومن سبَّكم غُرِّم، ثم من سبكم غرم، فما أحب أن لي دبرًا ذهبًا أى جبل ذهبا ، وأني آذيت رجلا منكم، ردوا عليهما هداياهما، فلا حاجة لنا بها، فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد عليَّ ملكي فآخذ الرشوة فيه،

وما أطاع الناس فيَّ فأطيعهم فيه ” فخرجا من عنده مقبوحين مردودا عليهما ما جاءا به، وأقام عنده المسلمون بخير دار مع خير جار ، وعن موسى بن علي، عن أبيه قال: سمعت عمرو بن العاص رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “يا عمرو، اشدد عليك سلاحك وثيابك”.

قال: ففعلت، ثم أتيته فوجدته يتوضأ، فرفع رأسه فصعد في النظر وصوبه، قال: “يا عمرو، إني أريد أن أبعثك وجها فيسلمك الله ويغنمك، وأَزعب لك من المال زعبة صالحة ” أى أدفع اليك دفعه من المال ، قال: قلت: يا رسول الله، لم أسلم رغبة في المال، إنما أسلمت رغبة في الجهاد والكينونة معك ، قال: “يا عمرو، نعما بالمال الصالح للرجل الصالح “.

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: زوجني أبي امرأة من قريش، فلما دخلت علي جعلت لا أنحاش لها، أى لا أكترث بها ، وما بي من القوة على العبادة من الصوم والصلاة، فجاء عمرو بن العاص إلى كنته حتى دخل عليها، فقال لها: كيف وجدت بعلك؟

قالت: خير الرجال أو كخير البعولة من رجل، لم يفتش لنا كنفا، ولم يعرف لنا فراشا ، فأقبل علي وعضني بلسانه، فقال: أنكحتك امرأة من قريش ذات حسب فعضلتها وفعلت وفعلت ، ثم انطلق إلى النبي فشكاني، فأرسل إلي النبي فأتيته، فقال لي: “أتصوم النهار؟” قلت: نعم. قال: “وتقوم الليل؟” قلت: نعم. قال: “لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأمس النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني”.

وقد تميّز عمرو بن العاص بالشجاعة، والحكمة، والذكاء، والدهاء، وكان له الفضل في رفع لواء الإسلام والمسلمين في بلاد الشام، وقد حارب المرتدين بعد وفاة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ، وتولى قيادة جيش في معركة اليرموك وهزم الروم .

وفتح عدة مدن من فلسطين، منها: غزة، وعمواس، ويافا، كما فتح مصر وحكمها بعد أن هزم الروم وكسر شوكتهم، وأسس مدينة الفسطاط، وأعاد حفر خليج تراجان ، لنقل الغنائم إلى الحجاز عن طريق البحر .

ويعد طاعون عمواس أول طاعون أصاب بلاد الشام، حيث انتشر في بلدة تدعى عمواس، وأصاب الناس في عهد عمر بن الخطاب سنة ثماني عشرة للهجرة، وتوفي فيه عدد كبير من كبار الصحابة، مثل: معاذ بن جبل، وشرحبيل بن حسنة، وأبو عبيدة، وعامر الثقفي، وغيرهم .

وانقسم الصحابة إلى قسمين فمنهم من آثر البقاء في البلدة، ومنهم من غادرها، وخلال ذلك واجه المسلمون أياما عصيبة إلى أن توفي معاذ واستلم عمرو بن العاص مكانه، فخطب في الناس وقال لهم أن يفروا إلى الجبال ، لأن الطاعون كالنار إذا لم تجد ما تحرقه خمدت، وبذلك يرجع له الفضل بانتهاء الطاعون .

وقيل لما حضرته الوفاة قال: اللهم إنك أمرتني فلم أأتمر، وزجرتني فلم أنزجر ، ووضع يده في موضع الغل وقال: اللهم لا قوي فأنتصر، ولا بريء فأعتذر، ولا مستكبر بل مستغفر، لا إله إلا أنت ، فلم يزل يردِدها حتى مات.

ومات عمرو بن العاص يوم الفطر، وقد بلغ أربعا وتسعين سنة، وصلى عليه ابنه عبد الله، ودُفن بمصر في سنة ثلاث وأربعين، ثم استعمل معاوية على مصر وأعمالها أخاه عتبة بن أبي سفيان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *