نسائم الإيمان ومع العابد جريج
إعداد / محمــــد الدكـــرورى
لقد كان جريج أحد عباد بني إسرائيل، حُبِّبت إليه العبادة والخلوة لها، حتى اتخذ لنفسه صومعة يعبد الله فيها على طريقة الرهبنة التي ابتدعها أهل الكتاب ولم يكتبها الله عليهم، لكن بعضهم لم يرعها حق رعايتها، غير أن جريجًا كان ممن حفظ عبادته ورعاها، وإن قصة جريج العابد كما روتها لنا كتب السنة، هي قصة مليئة بالعبر والعظات، وتبين خطورة عقوق الوالدين وتركِ الاستجابة لأمرهما، وأنه سبب لحلول المصائب على الإنسان.
وأن كل هذه المحن والابتلاءات التي تعرّض لها ذلك العبد الصالح، كانت بسبب عدم استجابته لنداء أمه، وكما تؤكد هذه القصة على ضرورة الصلة بالله ومعرفته في زمن الرخاء، وأن يكون عند الإنسان رصيد من عمل صالح وبرّ وإحسان، ينجيه الله به في زمن الشدائد والأزمات، كما أنجى جريجاً وبرأه من التهمة بسبب صلاحه وتقواه.
فكان جريج رجلا عابدا من عُبّاد بني إسرائيل الصالحين، وقد بنى صومعته، وترهب فيها وتعبد، فجاءته أمه الحنون، ووالدته المشفقة، وكانت تزوره بين الفينة والأخرى، تأتيه وتناديه، فيشرف عليها ويجلسان فيكلمها وتكلمه ، فذات يوم وافق مجيؤها وهو قائم يصلي، فنادته بصوتها الرخيم، وندائها الرحيم: يا جريج، فلم يجبها، ولم يسمع كلامها، آثر صلاته على ندائها، وذلك لقوة شغفه بالصلاة، وحلاوة المناجاة، وثلاث مرات تعاود الرجوع إليه وتكرر عليه النداء، فيتكلم مع نفسه، هل أجيب أمي، أم أكمل صلاتي؟
فآثر صلاته ولم يجب أمَّه، وكان الواجب عليه أن ينصرف من صلاته ويقدم إجابة أمه، لأن طاعة الوالدين واجبة، والصلاة التي يصليها نافلة ، فامتنع وعق أمه، وكم للعقوق من عقوبة عاجلة وآجلة، في الدنيا والآخرة، وآثار مؤلمة وعواقب سيئة، فنظرت إليه نظرة الأم المشفقة الغاضبة، وأرادت أن يعرف عِظم حق الأم عند الله باستجابة الله دعاءها عليه، ولتعطي درسا لكل من أغضب أحد والديه، ودعت عليه ألا يموت حتى يرى وجوه المومسات الزواني، هذا قصارى غضبها، فاستجاب الله دعاءها.
فاستجاب الله دعاء أم جريج، فذات يوم تعرضت إليه امرأة المومسات، بتشجيع من أهل الفساد ، ولكن الله حمى جريجا فلم يلتفت إليها، ولم ينظر إليها، بل ولم يرم ببصره إليها، حفظه الله بصلاحه، وحماه بعبادته وصِدقه ونجاحه، فلما أيست وفشلت، وخابت وخسرت، وحاولت وغضِبت، لجأت إلى راع يرعى الغنم، فمكرت به وتحيّلت عليه، وأغرته وفتنته، ومن نفسها مكنته، فوقع عليها ، فحملت منه غلاما، ثم بدأ مكرُها الثالث فزعمت وادعت أنه من جريج وأنه فُتن بها.
فهدموا صومعته، وأنزلوه من عبادته، بل جعلوا يتهكمون به وينشرون الافتراء عليه، ويجرونه في الطرقات مكبلا، ويخرج الناس ينظرون إليه ويتهكمون به، وممن خرج ينظر إليه مجموعة من المومسات، فيتذكر دعاء أمه عليه وقد تحقق، وسرعان ما جاء الفرج، وحلّ الضياء والمخرج، فظهر آثار صدق العبادة، وكيف تكون للعبد عند الأزمات حافظة، وعند الملمات كاشفة، والله لا يضيع عبده، ولا يخيب سعيه.
ولما كان جريج واثقا بربه، وصادقا في عبادته، ثابتا على أمره، فزع إلى خالقه، وصلى وناجى ربه، ليكشف الغمة ، فالصلاة تفرج الكربات، لأن الصلاة تعلق العبد برب البريات الذي بيده كل شيء ، فالصلاة تزيل العسر والحرج، وتجلب الفوز والفلاح ، وحينما أتوا له بالصبي الذي لم يمض على ولادته إلا ساعات ولحظات، طعنه طعنة بأصبعه أو بعصا ، وقال له: من أبوك يا غلام؟ والجموع شاهدة، فأجاب الصبي، بقدرة الله عز وجل، فلان الراعي،
فأبرأ الله سبحانه وتعالى جريجا، وتحول الموقف إلى ذكر الله تعالى، فأعظمَ الناس أمر جريج، وسبّح الناس وكبروا، وهكذا كان بيان حال الصالحين والأولياء من عباد الله الذين لا تضطرب أفئدتهم عند المحن، ولا تطيش عقولُهم عند الفتن، بل يلجؤون إلى من بيده مقاليد الأمور، كما لجأ جريج إلى ربه وفزع إلى صلاته، وكذلك كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة.
وعن أبو هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: “لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى ابن مريم، وصاحب جريج، وكان جريج رجلا عابدًا، فاتخذ صومعة فكان فيها، فأتته أمه وهو يُصلي فقالت: يا جريج، فقال: يا رب: أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته، فانصرفت، فلما كان من الغد أتته وهو يصلي فقالت: يا جريج، فقال: يا رب: أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته، فانصرفت، فلما كان من الغد أتته وهو يصلي.
فقالت: يا جريج، فقال: أي رب: أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته، فقالت: اللهم لا تمته حتى ينظر إلى وجوه المومسات، يعني الزواني، فتذاكر بنو إسرائيل جريجًا وعبادته، وكانت امرأة بغي يتمثل بحسنها فقالت: إن شئتم لأفتننه لكم، قال: فتعرضت له فلم يلتفت إليها، فأتت راعيًا كان يأوي إلى صومعته فأمكنته من نفسها، فوقع عليها، فحملت، فلما ولدت قالت: هو من جريج، فأتوه فاستنزلوه وهدموا صومعته وجعلوا يضربونه.
فقال: ما شأنكم؟ قالوا: زنيت بالبغي فولدت منك، فقال: أين الصبي؟ فجاؤوا به فقال: دعوني حتى أصلي، فصلى، فلما انصرف أتى الصبي فطعن في بطنه وقال: يا غلام: من أبوك؟ قال: فلان الراعي، قال: فأقبلوا على جريج يقبلونه ويتمسحون به، وقالوا: نبني لك صومعتك من ذهب؟ قال: لا، أعيدوها من طين كما كانت، ففعلوا ” رواه البخاري ومسلم.