نسائم الإيمان ومع سفيان الثورى
بقلم / محمــــد الدكـــرورى
هو أبو عبد الله سفيان بن سعيد بن مسروق بن حبيب الثوري التميمي المضري من بني ثور من حلف الرباب من بني تميم، والذي ينتهي نسبه إلي إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام ، وقد ولد سنة سبع وتسعين بالكوفة في خلافة سليمان بن عبد الملك ، فهو سُفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، وهو إمام الحفاظ في زمانه ، وكنيته أبو عبدالله.
ووالد سفيان الثورى هو المحدّث الصادق سعيد بن مسروق الثوري، وكان من أصحاب الشعبي، وخيثمة بن عبدالرحمن، ومن ثقات الكوفيين، وعداده في صغار التابعين، وروى له الجماعة الستة في دواوينهم.
وسفيان الثورى كان أحد أئمة الإسلام ، ويقول عنه الذهبي في سير أعلام النبلاء هو شيخ الإسلام، وإمام الحفاظ، وسيد العلماء العاملين في زمانه ، فهو أبو عبد الله الثوري الكوفي المجتهد مصنف كتاب الجامع.
وقال شعبة وابن عيينة وأبو عاصم ويحيى بن معين وغيرهم: سفيان الثوري أمير المؤمنين في الحديث ، وقال علي بن الحسن بن شقيق عن عبد الله قال: ما أعلم على الأرض أعلم من سفيان ، وقال بشر الحافي: كان الثوري عندنا إمام الناس ، وعنه قال: سفيان في زمانه كأبي بكر وعمر في زمانهما .
ويقال أن عدد شيوخه ستمائة شيخ وكبارهم الذين حدثوه عن أبو هريرة وجرير بن عبد الله وابن عباس وأمثالهم وقد قرأ الختمة عرضا على حمزة الزيات أربع مرات وأما الرواة عنه فخلق فذكر ابن الجوزي أنهم أكثر من عشرون ألفا.
ومن أقول سفيان الثورى : خالفتنا المرجئة في ثلاث: نحن نقول: الإيمان قول وعمل، وهم يقولون: الإيمان قول بلا عملٍ، ونحن نقول: يزيد وينقص، وهم يقولون: لا يزيد ولا ينقص، ونحن نقول: نحن مؤمنون بالإقرار، وهم يقولون: نحن مؤمنون عند الله .
وقيل عنه أنه بكر في طلب العلم حتى رآه أبو اسحق السبيعي مقبلا وقال: وآتيناه الحكم صبيا ، قال أبو المثنى: سمعتهم بمرو يقولون قد جاء الثوري قد جاء الثوري، وخرجت أنظر إليه فإذا هو غلام قد بقل وجهه أى خرج شعره ، وقال عبد الرازق وغيره عن سفيان قال: ما استودعت قلبي شيئا قط فخانني.
وقد قال : ليس الزهد بأكل الغليظ ولبس الخشن ولكنه قصر الأمل وارتقاب الموت، وقال شعبة: ساد سفيان الناس بالورع والعلم قيل للفضيل بن عياض في بعض ما كان يذهب إليه من الورع: من إمامك في هذا؟ قال: سفيان الثوري ، وعن قطيبة بن سعيد قال: لولا الله ثم سفيان لمات الورع.
ومن أقول سفيان الثورى : مَن قدَّم عليًّا على أبي بكر وعمر فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار، وأخشى ألا ينفعَه مع ذلك عمل ، وأئمة العدل خمسة ، هم : أبو بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعلي، وعمر بن عبدالعزيز رضي الله تعالى عنهم،من قال غير هذا فقد اعتدى
وقد قال : ما بلغنى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث قط إلا عملت به ولو مرة ، وقال عطاء الخفاف: ما لقيت سفيان الثورى إلا باكيا فقلت: ما شأنك؟ قال: أخاف أن أكون في أم الكتاب شقيا ، وقال ابن وهب: رأيت الثوري في المسجد الحرام بعد المغرب صلى ثم سجد سجدة فلم يرفع رأسه حتى نودى لصلاة العشاء.
وقال على بن فضيل: رأيت سفيان الثوري ساجدا حول البيت فطفت سبعة أشواط قبل أن يرفع رأسه ، وقال يحيى القطان: ما رأيت رجلا أفضل من سفيان ولولا الحديث كان يصلى ما بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء فإذا سمع مذاكرة الحديث ترك الصلاة وجاء.
وقال شعيب بن حرب: قلت لسفيان الثوري حدّث بحديث في السنة ينفعني الله به فإذا وقفت بين يديه وسألني عنه قلت يا رب حدثني بهذا سفيان فأنجو أنا وتؤخذ. فقال: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم القرآن كلام الله غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود ومن قال غير هذا فهو كافر والإيمان قول وعمل ونية يزيد وينقص .
وتقدمه الشيخين إلى أن قال يا شعيب لا ينفعك ما كتبت حتى ترى المسح على الخفين وحتى ترى أن إخفاء بسم الله الرحمن الرحيم أفضل من الجهر بها وحتى تؤمن بالقدر وحتى ترى الصلاة خلف كل بر وفاجر والجهاد ماض إلى يوم القيامة والصبر تحت لواء السلطان جار أو عدل .
فقلت: يا أبا عبد الله الصلاة كلها قال لا ولكن صلاة الجمعة والعيدين صل خلف من أدركت وأما سائر ذلك فأنت مخير لا تصل إلا خلف من تثق به وتعلم أنه من أهل السنة فإذا وقفت بين يدى الله فقل يا رب حدثني بهذا سفيان بن سعيد ثم خل بيني وبين ربى عز وجل.
وعن عطاء بن مسلم قال: لما استخلف المهدى بعث إلى سفيان فلما دخل خلع خاتمه ورمى به إليه فقال: يا أبا عبد الله هذا خاتمي فاعمل في هذه الأمة بالكتاب والسنة فأخذ الخاتم بيده وقال: تأذن في الكلام يا أمير المؤمنين؟ وقال عبيد: قلت لعطاء: يا أبا مخلد، قال له يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم قال: أتكلم على أنى آمن؟
قال: نعم قال: لا تبعث إلى حتى آتيك ولا تعطني شيئا حتى أسألك قال: فغضب من ذلك وهم به فقال له كاتبه أليس قد أمنته يا أمير المؤمنين؟ قال: بلى فلما خرج حف به أصحابه فقالوا ما منعك يا أبا عبد الله وقد أمرك أن تعمل بالكتاب والسنة؟ فاستصغر عقولهم ثم خرج هاربا إلى البصرة.
وقال ابن سعد: وطلب سفيان فخرج إلى مكة فكتب المهدى أمير المؤمنين إلى محمد بن إبراهيم وهو على مكة يطلبه فبعث محمد إلى سفيان فأعلمه ذلك وقال: إن كنت تريد إتيان القوم فاظهر حتى أبعث بك اليهم وان كنت لا تريد ذلك فتوار، قال: فتوارى سفيان فطلبه محمد بن إبراهيم وأمر مناديا فنادى بمكة: من جاء بسفيان فله كذا وكذا فلم يزل متواريا بمكة لا يظهر إلا لأهل العلم ومن لا يخافه .
قالوا: فلما خاف سفيان بمكة من الطلب خرج إلى البصرة فقدمها فنزل قرب منزل يحيى بن سعيد القطان فقال لبعض أهل الدار أما قربك أحد من أصحاب الحديث؟ قالوا: بلى يحيى بن سعيد قال: جئنى به فأتاه به فقال: أنا هنا منذ ستة أيام أو سبعة فحوله يحي إلى جواره وفتح بينه وبينه بابا وكان يأتيه بمحدثى أهل البصرة فيسلمون عليه ويسمعون منه
ولما تخوف سفيان أن يشهر مقامه بالبصرة قرب يحيى بن سعيد قال له: حولني من هذا الموضع فحوله إلى منزل الهيثم بن منصور الأعرجى من بنى سعيد بن زيد مناة بنى تميم فلم يزل فيه فكلمه حماد بن زيد في تنحيه عن السلطان وقال: هذا فعل أهل البدع وما تخاف منهم فأجمع سفيان وحماد على أن يقدما بغداد.
وقال ابن المديني: أقام سفيان في اختفاؤه نحو سنة وقال ابن المهدي: مرض سفيان بالبطن فتوضأ تلك الليلة ستين مرة حتى إذا عاين الأمر نزل عن فراشه فوضع خده بالأرض وقال: يا عبد الرحمن ما أشد الموت .
ولما حضر الموت سفيان الثورى جزع، فقال له مرحوم بن عبدالعزيز: يا أبا عبدالله، ما هذا الجزع؟ إنك تقدَمُ على الرب الذي كنت تعبده، فسكن وهدأ، وقال: انظروا مَن ها هنا مِن أصحابنا الكوفيين، فأرسلوا إلى عبادان، فقدم عليه عبدالرحمن بن عبدالملك بن أبجر، والحسن بن عياشٍ أخو أبي بكر بن عياش .
فأوصى إلى عبدالرحمن بن عبدالملك، وأوصاه أن يصلي عليه، فأقاما عنده حتى مات، فأخرج بجنازته على أهل البصرة فجأة، وسمعوا بموته، وشهِده الخلق، وصلى عليه عبدالرحمن بن عبدالملك، وكان رجلا صالحا رضيه سُفيان لنفسه، ونزل في حفرته، ونزل معه خالد بن الحارث وغيرهما، ودفنوه .
وقيل: اخرج بجنازته على أهل البصرة بغتة فشهده الخلق وصلى عليه عبد الرحمن بن عبد الملك بن أبجر الكوفي بوصية من سفيان لصلاحه وكان موته في شعبان سنة مائه وواحد وستين من الهجره ، ثم انصرف عبدالرحمن بن عبدالملك والحسن بن عياش إلى الكوفة، فأخبرا أهلها بموت سُفيان رحمه الله .