بقلم / محمــــد الدكـــرورى
كانت غزوة ذات الرقاع بنخلا، وهو موضع بنجد من أرض غطفان من منازل بني ثعلبة بين وادي نخل، وهو يسمى الحناكية، والشقرة، ويبعد عن المدينة بتسعين كلم تقريبا، وقيل أن ذات الرقاع، هى شجرة أو جبل والاصح انها سميت بذلك لأن الصحابة لفوا رقاع الأقمشة على أرجلهم، وكانت قوات المسلمين أربعمائة راكب وراجل، وكانت قوات العدو، هم بنو ثعلبة وبنو محارب من غطفان، وكان هدف الغزوة، هو القضاء على تجمع بني ثعلبة وبني محارب المجتمعين للإغارة على المدينة.
وقد تضاربت الأنباء حول عدد جيش المسلمين فقيل: أربعمائة من الصحابة، وقيل أيضا: سبعمائة من الصحابة رضوان الله عليهم، وقد خرج النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، بجيشه من المدينة المنورة منطلقا إلى موضع يقال له: نخل على مسافة يومين من المدينة حيث لاقى المسلمون في سيرهم نحو عدوهم المشاق والصعاب المتمثلة في وعورة الطريق نتيجة النقص في عدد الخيل والإبل التي تحمل المجاهدين حتى تمزقت نعالهم من قسوة الحجارة وحدتها .
وبعضهم تمزق منه الجلد والأظافر مما اضطرهم للفّ الخِرق والرقاع على أقدامهم، على الرغم من ذلك استمر الجيش في المسير حتى وصولوا إلى بطن نخل وهناك التقى بجمع من قبيلة غطفان، وتراءى الفريقان إلى بعضهما البعض دون وقوع قتال، وعندما انتشر خبر جيش الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، ومن معه بين الأعراب الساعين إلى قتال المسلمين دب في قلوبهم الخوف والرعب من المسلمين فما كان منهم إلا الفرار إلى رؤوس الجبال مخلفين النساء والمتاع والذرية خلفهم، جراء فرار المقاتلين.
وعندما فر الأعراب إلى رؤوس الجبال وقد حان وقت الصلاة خاف الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، من انقضاضِ المشركين على المسلمين أثناء تأدية الصلاة، وهنا جاء الأمر الإلهي بنص قرآني كريم بمشروعية وكيفية صلاة الخوف، فصلى رسول الله بجماعة ركعتين، ثم انتهوا، وصلى بالجماعة الثانية ركعتين، فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم، أربع ركعات وللجيش ركعتين ركعتين.
فقرر الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، العودة إلى المدينة المنورة، وبذلك انتهت هذه الغزوة دون قتال وأتم الله لرسوله ما أراد من إخضاع القبائل العربية المتمردة بعد أن أنزل في قلوبهم الرعب والخوف من الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتي دخلت في الإسلام لاحقا وشاركت المسلمين في غزوة حُنين وفتح مكة.
فلما علمت قبائل غطفان بقدوم المسلمين هربت، فلم يقع قتال، وعاد المسلمون منتصرين، وفي طريق العودة اشتد الحر عليهم، وجاء وقت القيلولة فنزلوا في واد كثير الأشجار، وتفرق المسلمون يستظلون فيه، وقد نام الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، وظهرت شجاعة النبى الكريم صلى الله عليه وسلم، وقوة يقينه بربه سبحانه وتعالى، وعفوه عمن ظلمه، وقد ظهر ذلك كله فيما رواه جابربن عبد الله رضي الله عنه، حين قال:
( كنا مع النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، بذات الرقاع، فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها للنبي محمد صلى الله عليه وسلم ، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتفرق الناس في العضاة، أى فى شجر به شوك، يستظلون بالشجر، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم، تحت شجرة فعلق بها سيفه .
وقال جابر : فنمنا نومة، فجاء رجل من المشركين: فاخترط سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أتخافني؟ قال: لا، قال: فمن يمنعك مني؟ قال : الله . قال جابر : فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، يدعونا فجئنا، فإذا عنده أعرابي جالس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده صلتا، فقال لي: من يمنعك مني؟
قلت : الله، فها هو ذا جالس، ثم لم يعاتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم ) وفي رواية أبي عوانة : ( فسقط السيف من يده، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال : من يمنعك مني؟ قال: كن خير آخذ، قال: تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ قال الأعرابي: أعاهدك على ألا أقاتلك، ولا أكون مع قوم يقاتلونك. قال: فخلى سبيله، فجاء إلى قومه، فقال: جئتكم من عند خير الناس) رواه البخاري .
وكان لهذه الغزوة أثر في قذف الرعب في قلوب الأعراب القساة، فلم تجترئ القبائل من غطفان أن ترفع رأسها بعدها، بل استكانت حتى استسلمت، وأسلمت، حتى شارك بعضها في فتح مكة وغزوة حنين، وساد الأمن والسلام ربوع المنطقة، وبدأ التمهيد لفتوح البلدان والممالك الكبيرة ، لتبليغ الإسلام ونشر الخير.
وقيل أنه في طريق عودة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ، من الغزوة ومع حلول الليل، أمر النبى الكريم صلى الله عليه وسلم، بحراسة على المعسكر، واختار لهذه المهمة رجلا من المهاجرين ورجلا من الأنصار، وهما عباد بن بشر و عمار بن ياسر رضي الله عنهما، وقسَّم الليل بينهما نصفين، فاختار عباد بن بشر أول الليل وقام يصلي، واستغل أحد المشركين هذه الفرصة فأطلق سهما أصاب عبادا رضي الله عنه.
فنزع عَباد السهم من جسده ومضى في صلاته، ثم رماه المشرك بسهم ثان وثالث، وهو مع ذلك مستمر في صلاته، ولم ينصرف حتى أتمّها، فأيقظ عمارا ليسعفه بالنجدة، فلما رأى المشرك ذلك ولى هاربا، فقال عمار وهو يرى الدماء تسيل من جسده: سبحان الله، ألا نبهتني أول ما رمى؟ فقال عبّاد رضي الله عنه : كنت في سورة أقرؤها، فلم أحب أن أقطعها .
وقال جابر بن عبد الله رضي الله عنه ( خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى غزوة ذات الرقاع من نخل، على جمل لي ضعيف، فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم، جعلت الرفاق تمضي، وجعلت أتخلف، حتى أدركني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: مالك يا جابر ؟ قال: قلت يا رسول الله أبطأني جملي هذا، قال: أنخه، فأنخته، وأناخ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال: أعطني هذه العصا من يدك، أو اقطع لي عصا من شجرة ، قال: ففعلت.
قال: فأخذها رسول الله فنخسه بها نخسات، ثم قال: اركب، فركبت، فخرج، والذي بعثه بالحق يواهق ناقته مواهقة أى يسابقها لسرعته، و قال: وتحدثت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لي: أتبيعني جملك هذا يا جابر ؟ قال: قلت يا رسول الله بل أهبه لك، قال: لا، ولكن بعنيه. قال: قلت: فسُمنِيه يا رسول الله، قال: قد أخذته بدرهم، قال: قلت: لا، إذن تغبنني يا رسول الله، قال: فبدرهمين، قال: قلت: لا، قال: فلم يزل يرفع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، في ثمنه، حتى بلغ الأوقية.
قال: فقلت: أفقد رضيت يا رسول الله؟ قال: نعم، قلت: فهو لك، قال: قد أخذته. قال: ثم قال: يا جابر : هل تزوجت بعد؟ قال: قلت: نعم يا رسول الله، قال: أثيِّبا أم بكرا؟ قال: قلت: لا، بل ثيِّبا، قال: أفلا جارية تلاعبها وتلاعبك؟ قال: قلت يا رسول الله إن أبي أصيب يوم أحد، وترك بنات له سبعا، فنكحت امرأة جامعة، تجمع رؤوسهن، وتقوم عليهن، قال: أصبت، إن شاء الله ” رواه أحمد .
ولقد حققت غزوة ذات الرقاع هدفها، وتمكنت من تشتيت الحشد الذي قامت به غطفان لغزو المدينة، وأرهب النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم تلك القبائل، وعلموا هم وغيرهم، أن المسلمين ليسوا قادرين فقط على سحق من تحدثه نفسه بالاقتراب من المدينة، بل نقل المعركة إلى أرض العدو نفسه، وضربه في عقر داره، حتى شاء الله أن تُسلم هذه القبائل لاحقا، وتشارك في فتح مكة وغزوة حنين .
وعن أبي هريرة رضى الله عنه قال : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انصرف من أحد ، مر على مصعب بن عمير وهو مقتول على طريقه ، فوقف عليه ودعا له ، ثم تلا هذه الآية : من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ، ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلا ” ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أشهد أن هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة فأتوهم وزوروهم ، والذي نفسي بيده لا يسلم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلا ردوا عليه ” وقيل النحب، هو الموت ، أي مات على ما عاهد عليه.
اترك تعليقاً