نسائم الإيمان ووقفه مع الإســـراف

بقلم / محمــــد الدكـــرورى

إن من فضل الله تعالى علينا ، أن شرع لنا دينًا قيمًا ، وجعلنا بين الأمم أمةً وسطًا، وسطًا في الأحكام والشرائع، ووسطًا في الآداب والفضائل ، وإن من معالم تلك الوسطية المباركة ما ذكره الله تعالى في كتابه الكريم عند ذكر صفات أحبابه والخلص من عباده ، وأن الله عز وجل أنعم عليكم نعمًا عظيمة كثيرة، فكان من ذلك أن أغناكم بعد فقر، وأطعمكم بعد جوع، وهداكم بعد ضلالة، وفتح لكم من أبواب الخير وسبل الرزق ما لم يكن لكم على بال.

وإن الإسراف والتبذير داء فتاك يهدد الأمم والمجتمعات، ويبدد الأموال والثروات، وهو سبب للعقوبات والبليات العاجلة والآجلة ، وأن الإسراف سبب للترف الذي ذمّه الله تعالى وعابه وتوعد أهله في كتابه ، فإياكم أن تكونوا من المترفين .

فرب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة ، والتبذير والإسراف سبب يؤدي بصاحبه إلى الكبر وطلب العلو في الأرض ، والإسراف والتبذير يؤدي إلى إضاعة المال وتبديد الثروة، فكم من ثروة عظيمة وأموال طائلة بددها التبذير وأهلكها الإسراف وأفناها سوء التدبير .

ولقد أغناكم الله من بعد فقرٍ، وأطْعَمَكم بعد جوعٍ، وفتحَ لكم من أبوابِ الخيرِ والرزقِ، مالم يكن لكم على بالٍ، و مالم يعشه أباكم وأجدادكم، بل أنتم في نعم وخيرات، لم يدركها خير الورى صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام ، فقدروا للنعمة قدرها، واشكروا اللهَ تعالى على ذلك حق شكرِه ، واحذروا من الاسراف والتبذير بشتى صوره .

ويرى بعض العلماء أن التبذير والإسراف مترادفان ، إذ كلاهما تضييع للمال، غير أن أكثر العلماء يفرق بينهما ، ويقول الإمام الماوردي: (اعلم أن السرف والتبذير قد يفترق معناهما ، فالسرف هو الجهل بمقادير الحقوق، والتذبير هو الجهل بمواقع الحقوق، وكلاهما مذموم، وذم التبذير أعظم، لأن المسرف يخطئ في الزيادة، والمبذر يخطئ في الجهل .

واعلموا أن الإسراف والتبذير، مسلك خطير، وداء مهلك، ومرض ينبت أخلاقاً سيئة، ويهدم بيوتًا عامرة، وقد جاء التحذير منه في كتاب الله تعالى، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم فقال سبحانه ﴿ وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ﴾ سورة الإسراء .

وإن ما تصاب به النفوس عند الغنى وكثرة العرض ووفرة المال التجاوز والطغيان ، ولما فُتح الله عز وجل علينا من الدنيا ما فتح وتوالى على كثير منا النعم، اغترّ فئام من الناس بهذا الطيف العارض والظل الزائل، فطغوا وتجاوزوا حدود الله تعالى ، فأسرفوا وبذروا وتخوضوا في مال الله بغير حق، فظهر في حياة الناس مظاهر الإسراف والتبذير.

و إن الإسراف سبب من أسباب الضلال في الدين والدنيا، وعدم الهداية لمصالح المعاش والمعاد ، وإن الناظر في أحوال كثيرٍ من الناس اليوم يرى ويشهد غياب هذه الخصلة عن جوانب عديدة من حياة الناس، فكم هم الذين تورطوا في الإسراف والتبذير في جميع الشؤون والأمور، إسراف في المآكل والمشارب، إسراف في الملابس والمراكب، إسراف في الشهوات والملذات.

وإن من معالم التبذير في حياة الناس اليوم هو الإسراف في المراكب والملابس والمساكن، فتجد أقوامًا تحملوا الديون العظيمة، وأرهقوا ذممهم وشغلوها ليحصل أحدهم على السيارة الفلانية أو الثوب الفلاني أو المسكن الفاخر والبيت الفارِه، وتكاثرٌ وتفاخر، سفَه في العقل وضلال في الدين.

وإن من الإسراف المذموم ما يفعله كثير من حدثاء الأسنان أو سفهاء الأحلام من إضاعة الأوقات وتبديدها في الملاهي والملذات والشهوات ، فتجد الواحد من هؤلاء يصرف عمره وخاصة نشاطه وفكره ووقته في لهو ولعب وسهر وتسلية، لا في عمل دنيا ينتفع به، ولا في عمل آخرة ينجو به، وغفلة وطيش، وضلال وزيغ، ضياع لمصالح المعاش، وذهاب لمصالح المعاد.

وقد نهى النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم ، عن الإسراف في الأمر كله، فنهى عن الإسراف في المآكل والمشارب والألبسة، بل ونهى عن الإسراف في الصدقات، فقال صلى الله عليه وسلم ، في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: ” كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا من غير سرف ولا مخيلة”. رواه أحمد .

وقد نهى النبى الكريم صلى الله عليه وسلم عن الإسراف في الوضوء، فقد قال صلى الله عليه وسلم ، توضأ ثلاثًا ثلاثًا ثم قال: “هكذا الوضوء، فمن زاد عن هذا فقد أساء وتعدى وظلم”.رواه النسائى وابن ماجه .

ولنحذر من كفران نعمة الطعام والتبذير فيه، ولنقتصد في أفراحنا وولائمنا، ولنتفكر في أحوال من حولنا ، ممن مسهم الجوع والظمأ، وهم في ما هم فيه من، حتى أصبحوا لا يتمنون فائض أطعمتنا ولا باردها، ولا ما يسقط على سفرنا أثناء أكلنا، بل أصبحوا يتمنون، ما نقدمه نحن للبهائم من خبز مكث بالأسابيع، وما نقدمه للطيور من حب و أرز بائت، قد تراكم مع طول الأيام، حتى عافت النفس رؤيته ومنظره .

وأصبح الجوع منهم لا يرحم، وألمه لا يسكن، حتى أكلوا القطط والكلاب والأعشاب، وحتى بكت عجائزهم من ألم الجوع، وهلك أطفالهم بين أيديهم وهم ينظرون، وما نراه اليوم في مناسباتنا من تجاوز الحد في الإنفاق والبذخ، والكبر والتفاخر بالموائد والأطعمة .

والمغالاة في الصالات المستأجرة، والتنافسٍ في إهدارٍ وذبح للذبائح فوق الحاجة، يوضح مدى ما يعانيه المجتمع، من غفلة عن المنهج الرباني، الذي أمر بالتوسط وعدم الإسراف ، وكما في قوله سبحانه: ﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ سورة الأعراف

وحتى لا تسلب هذه النعم من بين أيدينا، ينبغي أن لا يستهان بقليل الطعام ولو كان لقمة واحدة، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، فلقد صح عنه صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة ما يدل على حرصه على نعم الله تعالى .

فعنْ جَابِرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ” إِذَا وَقَعَتْ لُقْمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَأْخُذْهَا فَلْيُمِطْ مَا كَانَ بِهَا مِنْ أَذًى وَلْيَأْكُلْهَا وَلاَ يَدَعْهَا لِلشَّيْطَانِ وَلاَ يَمْسَحْ يَدَهُ بِالْمِنْدِيلِ حَتَّى يَلْعَقَ أَصَابِعَهُ فَإِنَّهُ لاَ يَدْرِى فِي أَي طَعَامِهِ الْبَرَكَةُ ” وعن أنس رضي الله عنه أَن النبى الكريم صلى الله عليه وسلم وَجَدَ تَمْرَةً فَقَالَ ” لَوْلاَ أَنْ تَكُونَ صَدَقَةً لأَكَلْتُهَا ”

ومن أخطر صور الإسراف المنهي عنها ( إسراف المال )، لذلك يسأل العبد عن جميع أعماله مرة واحدة وعن ماله مرتين، فعن أبي برزه الأسلمى رضي الله عنه ، أن النبى الكريم صلى الله عليه وسلم قال: ” لا تزولُ قدَما عبدٍ يومَ القيامةِ حتَّى يُسألَ عن أربعٍ : عن عُمرِهِ فيمَ أفناهُ ؟ وعن علمِهِ ماذا عمِلَ بهِ ؟ وعن مالِهِ مِن أينَ اكتسبَهُ ، وفيمَ أنفقَهُ ؟ وعن جسمِهِ فيمَ أبلاهُ ؟ رواه الترمذي .

وقال الله يبحانه وتعالى في ذلك: ( ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ) وقال ابن القيم رحمه الله “ والنعيم المسئول عنه نوعان: نوع أخذ من حله، وصرف في حقه، فيسأله عن شكره، ونوع أخذ بغير حله، وصرف في غير حقه، فيسأل عن مستخرجه ومصرفه ” .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *