رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن الإسلام والأمن
رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن الإسلام والأمن
بقلم \ المفكر العربى الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربى الدولي
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
مما لاشك فيه أن من مقاصد الدِّين المعتبرة، وأدواره المقرَّرة سيادةَ الأمن وحماية المكلَّف مِن كلِّ ما يسبِّب له الخوف؛ لتحصل له النجاةُ في الدَّارين معًا، ولقد امتنَّ الله تعالى على قومٍ أَنْ أَطعمهم من جوعٍ وآمنهم مِن خوفٍ؛ ولهذا فحياةُ الإنسان الكَادحة في هذه الدُّنيا هي في سبب الحصول على الأَمْن الذي هو عنوان الاستقرار والسعادة والنجاة.
ولك أن تتمثَّل حالةَ إنسان يعيش الخوفَ والفزع، والقلق والتوتُّر؛ إنَّه إنسانٌ بلا قيمة، وحياته أشبه بعدمها؛ فالإنسان يفقد مع الخوفِ كلَّ طاقاته وقواه، بدءًا بالقوى العقليَّة الفكريَّة، وانتهاءً بالقوى الجسديَّة المادِّية.
ولهذا كان من مقتضى الاستخلاف في الأرضِ أن ينشر الأمن ويعمَّ السَّلام؛ لأنَّ رسالة الإسلام رسالة أمنٍ بامتياز، وهذا ما يشير إليه صريحُ الحديث النبويِّ الشريف في بلوغ هذا الدِّين الغاية المرجوَّة؛ ((واللهِ ليتمَّنَّ هذا الأمر، حتى يسير الرَّاكبُ من صنعاءَ إلى حضرموت لا يخاف إلا اللهَ والذِّئبَ على غنمِه، ولكنَّكم تستعجلون))
وما يدُلُّك على مركزيَّة الأمن في الدين ارتباطُه بكثيرٍ من شرائع الإسلام وفرائضِه، وعلى رأس ذلك “فريضة الحجِّ”؛ فقد رُوي عن المذاهب الأربعة القول بإسقاط هذه الفرِيضة إذا كان هناك خوفٌ على الحُجَّاج، وانعدام الأمنِ في الطريق، أورد ذلك الدكتور بنحمزة في مقالةٍ له مطوَّلة في هذا الخصوص، وما خلص إليه بعد عرضِه لمجملِ أقوالِ المذاهب الأربعة قوله: “يتبيَّن إذًا أنَّ المذاهب الأربعة كلها تشترط الأمنَ في الحجِّ، ولا خلاف بين الفقهاء إلاَّ في كونه شرطًا في الوجوب أو شرطًا في الأداء
المقاصد الكبرى ومَلْمَحُ الأمن:
إنَّ الكليَّات الشرعيَّة التي جاءَت الشرائعُ لحفظِها وصيانتها – ومنها شريعةُ الإسلام – ليسَت في محصِّلتها سوى تحقيق الأَمْن لهذا الإنسان المطالب بالاستِخلاف، فما معنى أن تَحفظ على الإنسان دينَه ونفسه وعقله ونَسْله وماله سوى أن تحقِّق له الأمنَ في كلِّ ما يمسُّ حاجاته الضروريَّة التي لا انفكاكَ له عنها! وهذا من فائق عِناية الله تعالى بعبادِه في مختلف الشرائع.
ولمَّا كان الأمن مقصدًا جليلاً، ومطلبًا عزيزًا من مطالب الشرائع كلِّها، كان طلبه شاملاً لكلِّ مناحي حياة الإنسان؛ فالأمن في الإسلام لا يتجزَّأ، وما يطلب أمنًا لجانب العقيدَة والفِكر، يطلب كذلك أمنًا لجانب الغِذاء والصحَّة؛ فالجوانبُ تتكامَل فيما بينها ولا تفترق، وهذا شأن الكليَّات الدينيَّة، ومنها كليَّة الأمن.
ومن أجلِ الحفاظ على هذه المقاصد، وَضَع الإسلامُ مجموعةً من التدابير والإجراءات العقابيَّة لمن سوَّلَت له نفسُه الاعتداءَ على الغير، عبر تهديدِه للأمن الفردِي أو الأمنِ الجماعي، فهما سيَّان في شريعة الإسلام.
من أوليات الأمن في الإسلام:
1- الأمن العقدي، والفكري:
إنَّ أول أمرٍ سعى ويسعى الإسلامُ إلى تحقيقِه لدى الإنسان المستخلَف الجديرِ بعِمارة الأرض، هو الأمنُ على المستوى العقدِي الإيماني، فلأجل ذلك دَمْدَم الله تعالى على عبادةِ الشِّرك والمشركين، وجعل التوحيدَ حجَّةً على كلِّ حيٍّ في هذا الوجود.
ويدلُّك على أصالة الأمن العقدي في الإسلام كونه المبتدِئ لكلِّ شيءٍ بعده، والأصل لكلِّ فرعٍ يتلوه، وكما قال شيخُ الإسلام في عصره الإمامُ الطَّاهر بن عاشور: “بأن الإنسانَ إذا نشأَ على الاعتقاد المصِيب ارتاض عقله بقوانين الفِكر المصيب”[4]، والعكس كذلك صحيح؛ فمَن خامرَته الأوهامُ والشكوك، وخالطَتْه الأوهامُ والأكاذيب كان عقله أُحْبولةً لكلِّ شبهة، وموقعًا لكلِّ خطأ في التفكير.
إنَّ العقل الذي تخامره الأباطيلُ والأضاليل، وتنسج حوله خيوط مِن الخرافات والأكاذيب من كل أفَّاكٍ أثيم – عقل خائِف مضطرِب؛ ذلك أنَّ عقيدته مشوشةً لا تعرف توازنًا ولا وضوحًا، ما دام لم يَهْتد بعدُ للواحد الأحد، فلأجلِ هذا كلِّه أرسل اللهُ الرُّسلَ وأنزل الكتبَ، ودعا إلى عبادتِه وحده لا شريك له؛ قال تعالى: ﴿ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾ [المؤمنون: 32].
إنَّ أصعب اضطرابٍ يمكن أن يحدث للإنسانِ، وبسببه يصير هائمًا على وجهه لا يلوي على شيءٍ يصلحه مِن أمور حياته، هو اضطرابٌ في المعتقد؛ فهو أصلٌ لكلِّ فكرٍ سقيم وسلوكٍ معوج غير قويم، فماذا تنتظر مِن فعل الأحمق إلاَّ الخراب؟!
2- الأمن البدني الجسدي (الصِّحي):
لم يترك الدِّين أمرًا فيه صلاح الإنسان ونقله مِن حالة الخوف إلى حالةِ الأمن والاستقرار إلاَّ أَمَره بِه وأكَّد عليه؛ ففي الذِّكر الحكيمِ نقرأ أنَّ الله تعالى منَّ على عباده بإرسالِ النبيِّ محمدٍ عليه السلام كما كان مكتوبًا في التوراة والإنجيل؛ وذلك لأجلِ أن يأمرَهم بالمعروف وينهاهم عن المُنْكر ويحلَّ لهم كلَّ طيبٍ ويحرِّم عليهم كلَّ خبيث: ﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ﴾ [الأعراف: 157].
وتتجلَّى دعوةُ الإسلام إلى الحفاظ على الأَمن الصِّحي للإنسان في مناسباتٍ عِدَّة، أَذكر منها دعوتَه الكبيرة إلى حِفظ النَّفس، وهي كليَّة ثانِية من كليَّات الشريعة الإسلامية، والشرائِع كلِّها، فأيما أمرٍ يحفظ على الإنسان صحَّته، نجد حضًّا عليه كبيرًا، وحثًّا منقطع النَّظير، ومِن هنا أسرد هذه الأحكام التالية:
• دعوة الإسلام إلى أكلِ كلِّ طيبٍ صالحٍ ممَّا خلقه الله.
قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ [البقرة: 172].
• حِرْص الإسلام على النَّظافة والتطهُّر.
تَلْمح ذلك مِن خلال بابِ الطَّهارة في الفِقه، وهو أولُ بابٍ من أبواب الفِقه الموجودة في كلِّ كتب الفِقه، وفيه ما يتعلَّق بالوضوء والغُسل والتيمُّم وأنواع النجاسات التي ينبغي للمؤمنِ اجتنابها وتوقِّيها، وفي ذلك إشارة إلى أنَّ الطهارة والتطهُّر جزءٌ أَصيل مِن صلاح العبادة وتطهُّرِ الإنسان؛ قال عليه السلام: ((الطُّهور شَطْر الإِيمان))[5].
• تحريم الإسلام أكلَ المَيْتة والدَّم ولحم الخنزير وما أُهِلَّ به لغير الله.
إلى غير ذلك مما هو مبيَّن ومفصَّلٌ في تشريعات الإسلام وأحكامِه ممَّا ليس الغرض التفصيل فيه هنا؛ قال تعالى: ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ﴾ [المائدة: 3].
فالحاصلُ إذًا أنَّ الإسلام يسعى سعيَه الأكيد إلى حفظِ صحَّة الإنسان؛ لأنَّها من صميم حفظِ الإنسان المستخلَف في الأرض، الذي هو مكلَّف بعمارتها.
3- الأمن الأخلاقي التربوي:
وهي صورةٌ لا تنفكُّ ودعوةٌ لا تُحجب مِن الشارع الحكيم؛ فالشريعةُ الإسلامية شريعة أخلاقٍ، وأحكامها أخلاقيَّة، فما كان مِنها إلاَّ أن تسعى جهدها لتؤكِّد على سلامةِ الخُلُق ودَمَاثَتِه، وتربط بين الإيمانِ والخُلُق رباطًا وثيقًا؛ فالمؤمن الحقُّ هو الذي يربِّي نفسَه على الخُلُق القويم؛ تأسِّيًا بنبيِّه الكريم؛ ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4].
وما دعوةُ الإسلام إلى الصِّدق، وكلِّ أنواعِ البرِّ والعدلِ والإحسانِ من جهة، ونهيُه عن الكذِب وكلِّ أنواع الفحشاء والمنكَرِ من جهة أخرى – إلاَّ دعوة صَرِيحة في أصلِها إلى تحقيقِ نوعٍ من الأَمْن الأخلاقي لدى الفردِ المؤمن كي يقيَه غَواياتِ الشَّيطان وزلاَّت نفسه الأمَّارة بالطُّغيان.
فإذًا لا يكون المؤمن إلاَّ قريبًا مِن “العافية الأخلاقية” إن لم نقُل: إنه معافًى، فإذا تحقَّق من الفرد سلامَة خلُقه، تحقَّق من مجمُوعِهِ سلامُ المجتمع واستقراره الأخلاقِي، الذي يَقِيه الوقوعَ في مهاوِي الشُّبهات، ودرَكات الشهوات.
يقول أميرُ الشعراء “أحمد شوقي”:
وإنَّما الأُممُ الأَخلاقُ ما بقيَت = فإِن همُ ذهبَت أخلاقُهم ذَهبوا
وفي الختام فبهذه الأمنيَّات الثلاث يحصل الإنسان على سلامة وأَمْن ورَدْع داخلي ضدَّ كلِّ دخيلٍ، ودواء لكلِّ داءٍ يفتِك بالأمن ويهدِّده.
إنَّه ليس كالدِّين داعيًا إلى الأمن، وجالبًا له، ومُدَمْدِمًا على كلِّ معتدٍ أثيم، ومنتصرًا لكلِّ مظلومٍ ضعيف.