تسجيل الدخول
تسجيل الدخول
استعادة كلمة المرور الخاصة بك.
كلمة المرور سترسل إليك بالبريد الإلكتروني.
عاجل
- الهيئة المجتمعية المساعدة تلتقي لجنة قضايا الثأر والنزاعات القبلية بالمجلس الاستشاري وقيادة اللجان المجتمعية بالعاصمة عدن.
- لأول مرة.. خالد عويضة مطرب والسبب «كلى ليك».. (فيديو وصور)
- رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن الإمام الحسين رضي الله عنه
- #القوات_المسلحة تنظم زيارة لوفد من #السفارة_الكويتية لمقابر شهداء الكويت خلال حرب_أكتوبر_بالجيش_الثالث_الميداني
- وزير الشؤون الإسلامية” بالمملكة العربية السعودية يستقبل سفير أوزبكستان
- رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن المخدرات
- رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يؤكد على عدم الغضب
- رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن القيم
- رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يهنىء الإعلامي أحمد خليل أباظه عضو الإتحاد بعيد ميلاد السيدة الفاضلة والدته
- رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يهنىء رئيس الجمهورية التركية بذكرى يوم الجمهورية
رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن فقه ركائز العمل المؤسساتى
بقلم \ المفكر العربي الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربي الدولي
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
مما لاشك فيه أن الشريعةُ الإسلامية سمت بالعلاقات الإنسانية إلى أعلى درجات السُّمُو؛ حين أطلقت عليها اسمًا تجاوز كلَّ الاعتبارات العِرقية، والنزَعات الفئوية، والنعرات الطائفيَّة، فوحَّدتهم تحتَ عنوان جديد، تجتمع فيه كلُّ الروابط الإنسانيَّة الجميلة، والشمائل المحمودة؛ هو: (الأُخوَّة)، فكانت الهُوية الجديدة الواضحة والمشتركة بينهم، والأخوَّة هي الحقيقةُ التي تتلاشى عندها كلُّ الأوهام الشيطانية، والهواجس النفسيَّة التي تحاول أن تضعَ حواجزَ أو عوائقَ في طريق هذه العَلاقة السامية؛ لتجعل منها عَلاقةَ عبد بعبد، وليس شيئًا غير ذلك، فضلاً عن أن التسمية جاءت قرآنيَّة؛ لتعطيَها مزيدًا من التأكيد والأهميَّة، والأحقيَّة والقيمة والمكانة الرفيعة، فيقول تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [الحجرات: 10].
وبَدَت مظاهر هذه (الأخوَّة) الرائعة على طبيعتِها الحقيقية المتوازنة، حين مارسَها رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم شخصيًّا مع أصحابه، فبالرغم من كونه نبيًّا ورسولاً؛ بل سيد الأنبياء والمرسلين، وحبيب الله جل جلاله، وسيد ولد آدم، وقائدًا للأمة والرجل الأول فيها، ومؤيدًا من جبريل عليه السلام، رغم كلِّ ذلك وأكثر – فقد كان حين يكونُ معهم يقول صلى الله عليه وسلم لهم: ((أنتم أصحابي))[1]، ونعلم أن للصاحب على الصاحب حقوقًا، كما كان يخاطب أحدهم أحيانًا بـ (أخي)، وللأخ على أخيه حقوق، فعن ابن عمر رضي الله عنه، أن عمر رضي الله عنه استأذن النبيَّ صلى الله عليه وسلم في العمرة فأذن له، فقال صلى الله عليه وسلم: ((يا أخي، أَشرِكْنا في صالح دعائك ولا تنسَنا))، فقال: عمر رضي الله عنه: “ما أحبُّ أن لي بها ما طلعَت عليه الشمس”[2].
وكان رسولُ الله محمد صلى الله عليه وسلم بالفعل خيرَ صديق، وخيرَ صاحب، وخير أخ لهم؛ فقد كان يؤدي كاملَ الحقوق المترتِّبة على هذه العَلاقات على أتمِّ الأوجه وزيادة.
ثم ارتقى الإسلامُ بالأخُوَّة كمثالٍ عن أجمل العلاقات الإنسانية، التي تربَّعت بجدارة في قمة مراتب الحب العاطفي، فعن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((لو كنتُ متَّخذًا من أمتي خليلاً، لاتخذْتُ أبا بكر، ولكن أخي وصاحبي))[3]، فالخلة مَرتَبةٌ خاصة منفردة من الحب، ولا ينبغي أن يقسمها فرد بين اثنين، وقد خصَّها رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم لربِّه ومولاه الله جل جلاله، فلم يَكن لأبي بكر أن يكون خليلَه، ولكنه أخوه وصاحبه، يقول ابن المعتز:
إني رزقتُ من الإخوان جوهرةً
ما إن لها قيمة عندي ولا ثمنُ
فلست معتذرًا من أن أشحَّ بها
ولا يزال لديَّ الدهرُ يختزنُ
فما الخيانةُ من شأني ولا خُلُقي
وليس عندي لها عينٌ ولا أذنُ
ولا بدَّ لأيِّ عَلاقة إنسانيَّة متوازنة أن تتوفَّر فيها مجموعةٌ من القيم، هذه القِيمُ تُمثِّل الأساس الذي تقوم عليه هذه العَلاقة؛ لأن العَلاقات الإنسانيَّة التي لا تُبنَى على قيم (أسس) ستكون وكأنها عائمةٌ في الفضاء، وستتلاعب بها الرياح حيث شاءت، وكما قال الإمام الشافعي رحمه الله:
ولا خيرَ في ودِّ امرئ متلوِّنٍ إذا الريحُ مالَت مالَ حيث تميلُ
وأما القِيمُ التي ينبغي أن تتوفَّر في العَلاقة المتوازنة، فهي:
• الهدف المشترك: وحين يكون الهدف محدَّدًا ومشتركًا ينبغي أن يسعى الجميع لأن يصلوا إليه، وربما اختلفَ التوقيتُ الزمنيُّ للوصول للأهداف المشتركة، فقد يَصِلُ البعضُ قبلَ آخرين، أو ربما بعدَهم؛ لضرورة مرحلة، أو لأسباب خارجة عن الإرادة، ولكن العبرةَ في أن يَصِلَ الجميعُ، وهذا هو السرُّ في الرفض القاطع الذي اختاره عثمانُ بنُ عفان رضي الله عنه عندما طلب منه وهو يفاوض قريشًا كممثل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية – أن يطوفَ بالكعبة بمفرده، بعيدًا عن الجماعة التي جاء معها، فلم يكن هدفُ عثمان بن عفان رضي الله عنه أن يطوفَ وحده، فلقد كان الهدفُ مُحدَّدًا ومشتركًا، وهو يحبُّ ويرغب أن يتحقَّق للجميع، وأولُهم رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم.
وعينُ هدف أيِّ عَلاقة لا بد أن يكون رضا الله جل جلاله، والوصولَ إليه جل جلاله؛ لأن ذلك كما ذكرنا ضابطٌ للبوصلة، والذي يمكن أن يتحقق عبر ممارسات وآليات مختلفة، وكما هو معلوم بالضرورة حين تكون الأهداف كبيرة وراقية وسامية، لا بد أن تكون الوسائلُ والسبل سامية أيضًا، وليس هناك أدنى اعتبار للقول الشائع: (الغاية تبرِّر الوسيلة)، ولكن المصيبةَ أننا اليوم نسمعُ الجميع ينتقدون هذا القول، ويُفنِّدون مُدَّعيه، ويُفسِّقون سالكيه، ويُعنِّفون مروِّجيه، ولكنهم يمارسونه بكل قوة ومع سبق الإصرار والترصُّد، ولا يترددون، بل ولا يغمض لهم جَفنٌ في استخدام أي وسيلة أو طريقة – وإن كانت محرمةً شرعًا، أو منبوذة عرفًا وأخلاقًا – للوصول للهدف.
• التعاون والتضحية: والتعاونُ حقيقتُه أن الفرد يحتاج لأخيه، وهذه الحاجة تكون متوازنةً بينهم، فأصحاب القضية – كما وصفهم رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم – كالجسدِ الواحد الذي تتعاون أعضاؤه من أجل حمايته، فعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ترى المؤمنين في تراحمِهم وتوادِّهم وتعاطفهم كمَثَل الجسد؛ إذا اشتكى عضوًا، تداعى له سائرُ جسدِه بالسَّهر والحمى))[4].
ويُقدِّمُ الفرد عونَه لأخيه كلٌّ حسب مهاراته واختصاصه، وإن أعلى درجات التعاون هو الوصولُ إلى مرتبة التضحية في سبيل القضية وأصحابها، التي من أجلها يتعاون الأفراد، فقد روى عبدالله بنُ المبارك في كتابه الجهاد: أن بعضَهم مرَّ يومَ الجسرِ – يوم أبي عبيد – برجل قد قُطِعت يداه ورجلاه، وهو يقول: ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ﴾ [النساء: 69]، فقال بعضُ مَن مرَّ عليه: مَن أنت؟ فقال: أنا امرُؤ من الأنصار.
والتضحيةُ ينبغي أن تُقدَّم من قِبَل الجميع: من الكبير والصغير، من القائد والجندي، من الغنيِّ والفقير، لا أن يُضحِّيَ الصغار والفقراء وعامَّة القوم من الأتباع، ويبقى عِلْيَةُ القوم وساداتُهم يتفرَّجون؛ بحجة أنهم في القيادة يُقدِّمون الخُطَط والنصائح والأموال وما إلى ذلك، فالردُّ على هؤلاء أن كبارَ الصحابة كأبي بكر الصديق رضي الله عنه وعثمان بن عفان رضي الله عنه كانوا يُقدِّمون الأموال الطائلةَ ولم يمنعهم ذلك من المشاركة في الغزوات بأنفسهم، بل إن رسولَ الله محمدًا صلى الله عليه وسلم لم تَمنعه مكانتُه وأهميته من أن يخوضَ غِمار المعارك مع أصحابه، وأن يُجرَح ويضرب ويُصاب، وكان كبار الصحابة يتقدمون الصفوف في التضحية بالغالي والنَّفيس من أجل دينهم، من هنا كانت التضحيةُ على الغني، والقوي، والكبير، وصاحب الجاه، والمكانة – أكثرَ وجوبًا من غيره.
• المساواة: والقصدُ من المساواة في العَلاقة المتوازنة هو في حقوق الإنسانية، فلكل إنسان اعتبارٌ وقيمة معنوية، ينبغي أن تُحترَمَ في كلِّ الأحوال، وهذه القيمة الاعتباريَّة ليس لها عَلاقة بنوع التكليف الذي يُكلَّف به الفرد، فعلى سبيل المثال: في مؤسسة واحدة تتساوَى القِيم الإنسانيَّة لمدير المؤسسة ومَن يعملُ بوظيفة (سائق)، فكلٌّ منهما يؤدي دورًا في إطار خدمة المؤسسة، وكلٌّ منهما له الحق في الحياة الكريمة، فينبغي أن يكون أجرُ مَن يعمل معنا مناسبًا لتوفير مقوِّمات هذه الحياة، فلا معنى لعمل لا يُوفِّرُ حياة كريمة للإنسان، فإن لم يحققها صار ذُلاًّ وعبودية وليس عملاً، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((قال الله: ثلاثةٌ أنا خصمُهم يوم القيامة: رجلٌ أعطى بي ثم غَدَر، ورجل باع حرًّا فأكل ثمنه، ورجلٌ استأجر أجيرًا فاستوفى منه، ولم يُعطِ أجرَه))[5].
وفي وقفةِ تأمُّلٍ مع هذا الحديث القدسي، الذي يؤشر إلى قضية كبيرة، وذنبٍ عظيم، وخصومة غيرِ متكافئةٍ على الإطلاق؛ فمَن يرضى أن يكونَ اللهُ – جل جلاله وتقدَّست أسماؤه – خصمًا له يوم القيامة؟! فقد خاب وخسر، والأمر يقتضي المراجعة لمن يقسم الأرزاقَ والأجور، عليه أن يراجع نفسه آلاف المرَّات.
وكلُّ التُّهم التي سيكون الله جل جلاله خصمًا فيها لأولئك الأفراد، متعلقة بالعَلاقة مع الآخرين، وسلبِهم حقوقَهم؛ فهي تشرحُ شَناعة ثلاثة أفعال مع العباد:
الأول: الذي يغدِرُ بالآخرين بعد إعطاء عهد مُوثَّق بيمين بالله جل جلاله.
الثاني: مَن حوَّل شخصًا من الحرية إلى العبودية، وذلك ببيعه وأَكْلِ ثمنه، وهذه القضية وجوهُها متعددة، فاليوم قد أَذِن الله جل جلاله بأن تكون تجارةُ الرقيق من أخبار الماضي، ولكنها ظهرَت بأشكال وصورة جديدة، فحين يضطر فردٌ ما بالقبول لأن يعمل مع شخص آخر مقابلَ عقدٍ تعسفيٍّ، تنافي بنودُه الجائرة كلَّ القيم والأعراف الشرعيَّة والإنسانية والأخلاقية، من الجانب المالي والوظيفي والاجتماعي والإنساني – فإنه رِقٌّ بشكل جديد، وعبودية العصر الحديث.
الثالث: عدمُ إعطاء أصحاب الحقوق أجورَهم.
• الاحترام الشخصي: وهذه القضية أبى الله جل جلاله إلا أن تكونَ بكلامه تعالى (القرآن)، ومع أحبِّ الخلق إليه، ومَن نصَّبه جل جلاله سيدًا على الناس كافَّة؛ هو محمد صلى الله عليه وسلم؛ فقد “ذكر غيرُ واحدٍ من المُفسِّرين أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان يومًا يُخاطِبُ بعضَ عظماء قريش وقد طمع في إسلامه، فبينما هو يُخاطِبُه ويناجيه إذ أقبَل ابنُ أم مكتومٍ، وكان ممن أسلم قديمًا، فجعل يَسأَلُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن شيءٍ ويلحُّ عليه، وودَّ النبي صلى الله عليه وسلم أن لو كفَّ ساعته تلك؛ ليتمكَّن من مخاطبة ذلك الرجل؛ طمعًا ورغبة في هدايته، وعبس صلى الله عليه وسلم في وجه ابن أمِّ مكتوم، وأعرض عنه، وأقبل على الآخر، فأنزل الله تعالى: ﴿ عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ﴾ [عبس: 1 – 3]” [6].
فالفقيرُ الضعيف الأعمى احتُرمت شخصيتُه، وعوتب فيه خيرُ البشر وأحبُّهم إلى الله تعالى، وهو رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، في الوقت الذي كانت نيةُ رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم طيبةً، وهو صلى الله عليه وسلم من عُرِف بكمال الأخلاق وسموِّ الهدف، ولكن رغم ذلك حدَث الذي حدث.
وعن عبدالله بن أبي أوفى رضي الله عنه، قال: “كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُكثِرُ الذِّكر، ويقلُّ اللَّغْو، ويطيلُ الصلاة، ويقصر الخطبة، ولا يأنفُ أن يمشي مع الأرملة أو المسكين، فيقضي حاجته”[7].
فضعفُ حال الأرملة والمسكين وأشباهِهم لا ينفي عنهم صفةَ الإنسانيَّة، ولا يُصادِرُ منهم حقوقهم البشرية في الاحترام والتقدير، وهكذا كان يفعلُ رسولُ الله محمد صلى الله عليه وسلم معهم.
وكان الخطابُ القرآني يُؤكِّد على ضرورة الاهتمام بالآخرين، دونَ النظر إلى مستواهم المعاشي أو غِناهم، ولكن ينظرُ لهم كبشرٍ مثلُهم مثلُ غيرهم، فعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، قال: “كنا مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم ستة نفرٍ، فقال المشركون للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: اطردْ هؤلاء؛ لا يجترئون علينا! قال: وكنت أنا وابن مسعود، ورجل من هذيل، وبلال، ورجلان لست أسمِّيهما، فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقَعَ، فحدَّث نفسه؛ فأنزل الله عز وجل: ﴿ وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ﴾ [الأنعام: 52]”[8].
• التقديرُ لنوع العمل الذي يُقدِّمه، وحتى لا تكونَ نوعية العمل سبَّةً لمن يمتهن الأعمال البسيطة، أو التي يراها الناس نقيصةً أو حقيرة؛ فقد جعل الله جل جلاله كلَّ الأنبياء من غير استثناء يعملون برعْيِ الغنم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما بعَث الله نبيًّا إلا رعى الغنم))، فقال أصحابه: وأنتَ؟ فقال: ((نعم، كنت أرعاها على قراريطَ لأهل مكة))[9].
والخطرُ الدَّاهم يكمن في الشعور الذي يتملَّكُ مدير المؤسسة بأن هذا العامل، أو السائق، أو الموظف البسيط يعمل عنده شخصيًّا؛ فيشعر بأنه عليه أن يَخْدُمَه، ويُقدِّم له فروض الطاعة والولاء؛ عندها يختلُّ توازنُ العَلاقة الإنسانيَّة، ويَفقِدُ مدير المؤسسة القابليَّة على العطاء، مثلما يفقد العاملُ الصغير القابلية على حسن الإنجاز وعلى الإبداع، فتشير البوصلة إلى الاتجاه الخطأ.
• التوازن العاطفي: المُؤَاخَذُ على العَلاقات السلبيَّة أنها عَلاقات عاطفيَّة، لا يتحقَّقُ فيها التوازن المنشودُ بين العقل والعاطفة، فتبدأ تحت غطاءِ الحبِّ في الله جل جلاله، وتتهيَّجُ المشاعر الجيَّاشة، وتسمو معاني الأخوَّة في ذات الله جل جلاله بشكل رائعٍ، حتى تصلَ إلى آفاقٍ واسعةٍ، وربما تصلُ إلى نقطة التضحيةِ بالنفس، ثم مع مرورِ الوقت ومباشرة أمورِ الحياة الواقعيَّة بشكل طبيعي؛ كالتعاملات المادية، أو التجارية، أو المرافقة في السفر، وأمور حياتيَّة عمليَّة كثيرة التي من شأنها أن تُظهِرَ الإنسان على حقيقته، هنا تخفُتُ العواطف، وتبدأ بالضُّمور شيئًا فشيئًا، ثم تذهب أدراجَ الرياح، وربما تحوَّلت إلى كراهية وعداوة، يَنتُجُ عنها طعنٌ لا مثيلَ له، وسعيٌ جادٌّ لسحقِ الآخر، أو تشويه صورته على الأقلِّ.
إن الاقتصاد والوسطيَّة في التعبير المنطقي للمشاعر العاطفيَّة للآخرين هو الحلُّ المناسب للوصول لحالة التوازن بين العاطفة والعقل في العَلاقات الإنسانيَّة، وأحيانًا فإن صغارَ القوم من أصحاب الفطرة السليمة يمارسون هذا العملَ، فيستثمِرُه الكبارُ بشكل سلبي، وتَحدُثُ خلال ذلك الطبقيَّةُ الاجتماعية المرفوضة، ومن هذا الأساس كان أميرُ المؤمنين عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه، يقول: “أحْبِبْ حبيبَك هونًا ما؛ عسى أن يكون بغيضَك يومًا ما، وأبغض بغيضَك هونًا ما؛ عسى أن يكون حبيبَك يومًا ما “[10].
• المصير المشترك: ومثلما وجب أن تتَّصِفَ العَلاقة المتوازنة بالهدف المشترك، كذلك ينبغي أن يكونَ الفهمُ العميقُ للأخوَّة أو الأصدقاء أن مصيرَهم مشترك، لقد أحبَّ أولئك الذين بايعوا رسولَ الله محمدًا صلى الله عليه وسلم بيعةَ العقبةِ أن يستوثِقوا من قضية المصير المشترك إن هم بايعوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فأكَّدها لهم صلى الله عليه وسلم، حين قال: ((أبايعكُم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءَكم وأبناءَكم))، قال: فأخذ البراءُ بن معرور بيده ثم قال: نعم، والذي بعثك بالحق لنمنعنَّك مما نمنَعُ منه أزُرَنا، فبايعْنا يا رسولَ الله، فنحن أهلُ الحروب، وأهلُ الحلقة، وَرِثْناها كابرًا عن كابر، قال: فاعترض القول – والبراءُ يُكلِّم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم – أبو الهيثم بن التيهان حليف بني عبدالأشهل، فقال: يا رسول الله، إن بيننا وبين الرجال حبالاً، وإنَّا قاطعوها – يعني: العهود – فهل عسيتَ إن نحن فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك، وتدعنا؟ قال: فتبسَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: ((بل الدمَ الدمَ، والهدمَ الهدمَ، أنا منكم وأنتم مني، أحاربُ من حاربتُم، وأسالمُ مَن سالمتم))[11].
والتوازنُ المنشودُ في العَلاقة هو الذي تتوفَّرُ فيه مجموعةٌ من العناصر، وصولاً للتوازنِ الاجتماعيِّ الذي هو أساسُ التوازن في العَلاقات الاجتماعية، فإن التوازن الاجتماعي هو الذي يُحقِّقُ للآخرين إنسانيَّتَهم على حقيقتِها، مثلما يشعرون بأنهم جزءٌ من مجتمع أو فريق عملٍ محترم له ما لهم وعليه ما عليهم، ويُترجِمُ هذا التوازن الأُخوَّة إلى واقع حقيقي رغم الاختلاف العِرقي أو الوظيفي أو المالي، فلا مانعَ أن يتوافقَ تحتَ هذا المفهوم الإنساني من يتبوَّأ مكانةً وظيفيَّة أو اجتماعية عاليةً مع آخر لا يتمتَّع بهما، وبهذا الإحساس صرَّح صهيبُ بنُ سِنان الرومي رضي الله عنه عما في مكنونات نفسه حين ضرب عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (فلما أصيب عمر، دخل صهيبٌ يبكي يقول: وا أخاه وا صاحباه!)[12].
لقد تحقَّق المفهومُ الذي نتكلَّمُ عنه، فإن صهيبًا الرومي رضي الله عنه وهو المواطن يشعر بأن أميرَ المؤمنين ورئيس الدولة التي يعيش فيها إنما هو أخوه وصاحبُه ليس أكثر!
هذه هي الأمَّةُ الفائزةُ التي تتوفَّرُ في أفيائها عَلاقاتٌ إنسانيَّة بهذا المستوى من الرُّقيِّ والسمو، بحيث تجعل الفرد الاعتيادي لا يتردَّدُ في أن يُخاطِبَ أعلى قمة في هرم الدولة بعبارة (أخي) أو (صاحبي) بلا تردُّد، وبمشاعرَ حقيقيَّةٍ غير تمثيلية، وبلهجة الواثق من نفسه، الصادق في عباراته.
ومثل هذه الأمة التي تُشيرُ بوصلة علاقات أفرادها إلى الاتجاه الصحيح – يَفتخِرُ الإنسان بالانتساب لها، ويُباشِرُ بلا تردُّدٍ العمل الجاد والبذل لنجاحها وتفوقها.
• ومن دلالات التوازن الاجتماعي:
• تبادل الزيارات والاتصالات: اعتادَ الناسُ أن يزورَ الفقيرُ الغنيَّ، والضعيف القوي، والصغير الكبير، وأن الأمرَ يبدو للوَهْلة الأولى طبيعيًّا، وهذا ما اعتاد عليه الناس اليوم، ولكنه إن كان بسبب التمايُزِ الطَّبقي أو الاجتماعي، فإن ذلك سيُؤدِّي إلى نتائجَ سلبيَّة، فهو يبعثُ في نفس القويِّ والغني بأنه صاحبُ الحقِّ في أن يُؤتَى ولا يأتي، فيَنصاعُ لهوى نفسِه الأمَّارة، وربما وَقَع في الكِبْر والعجب، وفي ذات الوقت فإن الأمرَ يَبعثُ في نفس الفقير والضعيف ما يُملي عليه أن يأتي الآخرَ، ويُقدِّمَ له فروض الطاعة والولاء، فتقع في نفسه الهزيمة والانكسار.
وتكونُ العَلاقات الاجتماعية متوازنةً حين يتبادَلُ الناسُ الزيارات بشكل متعادل، فإن الغنيَّ إذا زار الفقيرَ فإن الفقير سيَشعُرُ أنه إنسانٌ مُحترَمٌ، لا يقلُّ شأنًا عن الغني، وإن الفارقَ في فضولِ الأموال إنما هو رزقٌ يَسوقُه الله جل جلاله للناس، واللهُ جل جلاله لا يُسأَلُ عمَّا يَفْعَلُ؛ لأن الخيرَ كلَّ الخير للناس فيما يختارُه الله جل جلاله للناس؛ لذلك نجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُكثِرُ زيارةَ الأنصار خاصة وعامة، فكان إذا زار خاصَّة أتى الرجلَ في منزله، وإذا زار عامَّة أتى المسجد[13].
ولم تكن زياراتُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لنوعيَّة خاصة من الناس، كأصحابه المقربين أو كبار القوم – وهو كان يفعل ذلك – ولكنه يزورُ عامَّةَ الناس وفقراءَهم في بيوتهم أيضًا؛ كجزء مهمٍّ من المجتمع لا يمكن التخلي عنهم أو التفريط فيهم؛ لأهمية وجودِهم ودورهم الفاعل في المجتمع، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً قد صار مثلَ الفَرْخ، فقال: ((ما كنت تدعو بشيء أو تسأل؟))، قال: كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبَني به في الآخرة، فعجِّلْه في الدنيا، فقال: ((سبحان الله! لا تستطيعُه، أو لا تطيقُه، قل: اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار))[14].
وواضَحٌ من سياق الحديث أن الرجلَ الذي زاره النبيُّ محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن معروفًا، ولو كان صحابيًّا معروفًا لما تردَّد أنس بن مالك رضي الله عنه في أن يذكره باسمه.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: كان غلام يهودي يَخدُمُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فمرض، فأتاه النبيُّ صلى الله عليه وسلم يعودُه، فقَعَد عند رأسه، فقال له: ((أَسْلِمْ))، فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال له: أَطِعْ أبا القاسم صلى الله عليه وسلم، فأسلم، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: ((الحمدُ لله الذي أنقذه من النار!))[15].
ولنا أن ننظُرَ بعين المنصف لهذه الزيارة، إن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقوم بدور المربي والمسؤول، وهو يزور طفلاً صغيرَ السن، ويهوديًّا، وليس بينه وبين الموت إلا هنيهات من الزمن، ولو كان أحدُنا في هذا الموقف، لقدَّمنا الكثير من التساؤلات في أهمية هذه الزيارة، وجدواها! ولكن رسول الله محمدًا صلى الله عليه وسلم يُؤدِّي دوره العظيم في تربية الأمة.
وفي موضع آخرَ يستجيب صلواتُ ربي وسلامه عليه لدعوة امرأة عجوز، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن جدَّته مليكة دعَتْ رسول الله صلى الله عليه وسلم لطعام صنعَتْه له، فأكل منه، ثم قال: ((قوموا فلأصلِّ لكم))، قال أنس: فقمتُ إلى حصير لنا، قد اسودَّ من طول ما لبس، فنضحتُه بماء، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصفَفْتُ واليتيمَ وراءَه، والعجوزُ من ورائنا، فصلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتَيْن، ثم انصرف [16].
ولكننا اليوم نرى بأمِّ أعيننا من يتهرَّب من دعوة الضعفاء، ويربأ بنفسه عن طعامهم؛ فهو لا يليق بمقامه، مثلما ينأى بنفسه أن يتكلَّف استقبالهم، وأداء واجباتهم كضيوفٍ، فلا يُجيبُ إلا دعوات كبار القوم وأغنيائهم؛ ففيها ما يرضي غرورَ نفسه.
وعن عتبان بن مالك رضي الله عنه، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أتاه في منزله، فقال: ((أين تحبُّ أن أصلِّي لك من بيتك؟))، قال: فأشرتُ له إلى مكان، فكبَّر النبي صلى الله عليه وسلم، وصففنا خلفَه، فصلى ركعتين[17].
• الالتزام بالعهود: وقد صار هذا الخُلُق الطيِّب اليوم لناسٍ دون آخرين، فكبار القوم ليسوا على استعدادٍ للوفاء بعهودهم التي قطعوها بالأمس القريب للآخرين، ويُبرِّرون ويَعتذِرون بشتَّى الأعذار والذرائع، ثم يتنصَّلون عن عهودِهم، بينما يُلزَمُ الصِّغار والفقراء بأن يوفوا بالعهود، ولا يُسمَحُ لهم بغير ذلك؛ لأن في ذلك خيانةً للأمانة وتفريطًا في مبادئ القضية، في حين أن الله حين أمر بالوفاء بالعهود لم يُصنِّف الناس، وكان الخطاب عامًّا، يقول تعالى: ﴿ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولًا ﴾ [الإسراء: 34].
• فرص الكلام: غَلَب على عَلاقات اليوم – وخصوصًا بين كبير المقام ومن أصغر منه – بأن يستلم الكبير أو القوي أو الغني أو ذو الشأن دفَّةَ الحديث، فيُوجِّهه حيث شاء، وليس لصغارِ القوم فرصة في الكلام، وهذا من الأخلاق السيئة التي تجعل الضعيف أو الفقير في مقام لا يُحسَدُ عليه، ويشعر بالعُقد النفسية تجاه الآخرين، وقد لا تظهر نتائجه قريبًا، بل من الممكن أن تكبرَ معه وتنفَجِرَ في أشدِّ الأوقات حرجًا على المجتمع، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سَمِع رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((أرأيتم لو أن نهرًا بباب أحدِكم يغتسِلُ فيه كلَّ يوم خمسًا، ما تقولُ ذلك يبقي من درنه؟))، قالوا: لا يُبقِي من درنه شيئًا، قال: ((فذلك مثل الصلوات الخمس، يمحو الله به الخطايا))[18]، ففي هذا الحديث نقرأُ كيفَ كان رسولُ الله محمد صلى الله عليه وسلم يُحفِّز مَن يجلس معه بأن يقول رأيَه بعد سؤاله من قِبَل رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم.
• تكافؤ فرص العيش: ولقد صار من أمراض العصرِ الحالي أن يعيش أناسٌ بنعمة، وخير وفير، وعزٍّ منيع، وآخرون معهم بنفس السفينة، ويؤمنون بنفس المبادئ، ويعملون من أجل نفس القضية، ولكنهم يعيشون بحاجة وتعب وذلٍّ، وظهرٍ مكشوف وفقدان الأمن، وقد يطلق عليهم المصطلح المعاصر أنهم (يعيشون تحت مستوى خط الفقر).
لقد دعَت الشريعة الإسلامية إلى توفير الحاجات الحياتية الأساسيَّة في الحياة للإنسان؛ لكي يكون منتجًا ومُفكِّرًا مبدعًا، يقول المستورد بن شدَّاد رضي الله عنه: سمعت النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: ((مَن ولي لنا عملاً وليس له منزلٌ، فليتَّخِذْ منزلاً، أو ليست له زوجة فليتزوَّج، أو ليس له خادم فليتخذ خادمًا، أو ليست له دابة فليتخذ دابة، ومن أصاب شيئًا سوى ذلك فهو غالٌّ))[19].
وهذا المقدارُ من فرص العيش في الحياة يُسمَّى: (حدَّ الكفاية)، وليس حدَّ الكفاف، وهو مستوًى راقٍ ومتطورٌ وتنموي في المنظور الاجتماعي والاقتصادي.
وفي الدور التربوي للنبيِّ محمد صلى الله عليه وسلم لأمته أنه يتعمَّد صلى الله عليه وسلم أن يختار جانبًا اقتصاديًّا يَتعلَّقُ بتكافؤ الفرص في العيش؛ ليعلم رجلاً خلقًا ما، فعن جريرِ بنِ عبدالله البَجلي رضي الله عنه أن رجلاً أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم بين يَدَيْه، فاستقبلَتْه رعدة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((هَوِّنْ عليك؛ فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش، كانت تأكل القديد[20]))[21].
لقد كان حرصُ رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم كبيرًا في مَنْح الجميع نفس الفرص، ليس في العيش فحسب، بل في أوجهِ الحياة كافَّة، حتى على مستوى الإناء الواحد، بل على مستوى التمرةِ الواحدة، وقد يبدو الأمر مبالَغًا فيه، ولكن الأمر لأهميته العالية تناوله رسولُ الله محمد صلى الله عليه وسلم بهذه الطريقة الرائعة، فعن جَبَلة بن سحيم التيمي قال: كنا بالمدينة في بعض أهل العراق، فأصابنا سنة، فكان ابن الزبير يرزقُنا التمرَ، فكان ابن عمر رضي الله عنهما يمرُّ بنا فيقول: “إن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الإقران، إلا أن يَستأذِنَ الرجلُ منكم أخاه”[22].
• قبول المخالفين في الرأي: ثقافةُ الاختلاف في الرأي هي إحدى المؤشِّرات المهمة على مدى تطور الشعوب، ومن أجل هذا حَرَصت الشريعةُ الإسلامية على إلزام الفرد قبولَ الرأي الآخر، وعدم إلزامه بالخضوع والانحناء أمام ما نؤمن به بالقوة، وفي أقلِّ الأحوال منحه الفرصَ والبدائل ليختار.
وما يهمُّنا في موضوع بحثِنا أن الأمَّة بدأت تنحَرِفُ عن هذا الفهم الأصيل، الذي هو من صميم توجُّه الفكرِ الإسلاميِّ السليم، فأصبَحَ الناصحُ الذي يُحاوِلُ أن يُقوِّم التقصير أو الأخطاء المرتكبة من قبل الآخرين – يوصف بالعدوِّ الذي يحاول تدمير المسيرة.
لقد شجَّع رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم الصحابة على أن يقولوا بآرائهم من غير تردُّد ولا تعتعة، فهذا الحُبَابُ بنُ المنذر يُدلي بدلوه يوم معركة بدر الفرقان، فغيَّر رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم مكانَ الجيش الإسلامي بأكمله؛ بناء على استشارة الحباب رضي الله عنه.
إن أهم الأسباب لعدم قبول الرأي الآخر يكمن في فقدان القدرة على استيعابِ وِجهات نظر الآخرين، وهذا يؤدي إلى الشعور بأن صاحبَ الرأي المخالف ما هو إلا عدوٌّ يُحاوِلُ إفشالَ الطرف الآخر في الوصول إلى ما يطمحون إليه.
لذلك؛ لابد من نبذِ الاختلاف حين يكونُ من أجل فرض رؤية معيَّنة، بعيدًا عن أي مستند علميٍّ، أو واقعي، أو لمجردِ الانتصار للنفس، فالاختلافُ في وجهات النظر أو في الرُّؤى، ولو كانت عَقَديَّةً، إذا كان مبنيًّا على أسس ومبادئ يُؤمِنُ بها كلٌّ وَفْقَ وجهة النظر التي يتبنَّاها – سيُسهِّلُ الأمر لجميع الأطراف للوصول لحلٍّ يُرضيهم.
ومن باب آخر: ينبغي أن يتعلَّم الأفرادُ ثقافةَ الحوار مع المخالفين، وليس شنَّ الحرب واستخدامَ ما يُمكِنُ من الأساليب الهجوميَّة مع أول جملة يتفوَّهُ بها المخالفُ في الرأي.
والحوار: هو النِّقاشُ بين طرفَيْنِ حولَ قضية معيَّنة بحيث يأخُذُ كلُّ طرف من الطرفين فرصتَه الكاملة للتعبير عن وجهة نظره، محاولاً إثباتها، ثم يبادر الآخر ليأخذ نفس الفرصة.
لقد تناولَ القرآن العظيم مصطلحَ الحوار في سورة الكهف؛ نظرًا لأهميته في الحياة؛ لأنه من الطبيعي جدًّا أن يكون للفردِ مخالفون في الرأي، سواء في العقيدة، أو في الفكر، أو في الفهم، أو في أمور الحياة عامة؛ وبذلك توفَّرت مادة للحوار بين الطرفين، قال تعالى: ﴿ وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا ﴾ [الكهف: 34]، ثم أعاد الخطاب بعد آيتين فقط، بقوله تعالى: ﴿ قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا ﴾ [الكهف: 37].
ومن أسس الحوار:
• أن يستمع طرفٌ حتى ينتهي الطرف الآخر، ثم يَحدُث العكس.
• أن يكون ودِّيًّا، فهو ليس حلبةَ مصارعة بين طرفين.
• في الغالب يكون هادئًا، بعيدًا عن التشنجات النفسيَّة، والانفعالات العصبية.
• يكون في الأمور الفكرية وليس المادية، ففي الماديات والصفقات يكون تفاوضًا.
• ينبغي أن يتسلَّح المحاور بالعلم الكافي (في قضية الحوار) الذي يُوفِّرُ له الأدلة والحجج المناسبة لإقناع الطرف الآخر.
• يُفضَّل أن تتطابق أعمال المحاور مع أفعاله في القضية التي تكون مدار الحوار.
• أن تكون الغايةُ منه الوصولَ للحق، وإلا تحوَّل جدلاً.
• وجودُ تكافؤ في الفرص، وحريةٍ لقول الرأي، ما يعني: لا يتحاور وأحدُ الطرفين تحت ضغط ما، سواء كان هذا الضغط مباشرًا أم غير مباشر.
• ليس بالضرورة أن يكون هناك طرفٌ رابح وآخر خاسر، فقد ينفضُّ مجلس الحوار ولا يبدي أيُّ الطرفين اقتناعًا بوجهة نظر الآخر، وقد تأتي النتائج لاحقًا.
ويقع الكثير من الناس في خطأ جسيمٍ في الحوار حين يَنظرون إلى الجانب المُظْلمِ أو القاتم في رأي أو شخصية المُخالِفِ، فهو كمَن يُقدِّم التشاؤم في الموضوع، بينما من المفروض أن يَنظُرَ إلى الجانب المُشرق فيه؛ وهو الجانب التفاؤلي في الموضوع، ومِن رحِمِ التفاؤل والنظرة للجزء المملوء وليس الفارغ من القدح – تَنبثِقُ النتائجُ العظيمة.
________________________________________
[1] صحيح مسلم، كتاب الطهارة، باب: استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء.
[2] مسند أحمد بن حنبل، ومن مسند بني هاشم، مسند عبدالله بن عمر رضي الله عنهما.
[3] صحيح البخاري، كتاب المناقب، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: “لو كنت متخذًا خليلاً”.
[4] صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب: رحمة الناس والبهائم.
[5] صحيح البخاري، كتاب البيوع، باب: إثم من باع حرًّا.
[6] تفسير القرآن العظيم، أبو الفداء ابن كثير القرشي الدمشقي، ج4، ص: 568.
[7] صحيح ابن حبان، كتاب التاريخ، ذكر خصال كان يستعملها صلى الله عليه وسلم ويستحب لأمته الاقتداء به فيها.
[8] صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، باب: في فضل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.
[9] صحيح البخاري، كتاب الإجارة، باب: رعي الغنم على قراريط.
[10] المطالب العالية؛ للحافظ ابن حجر العسقلاني، كتاب الأدب، باب الحب.
[11] مسند أحمد بن حنبل، مسند المكيِّين، بقية حديث كعب بن مالك الأنصاري.
[12] صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: “يُعذَّب الميت…”.
[13] مسند أحمد بن حنبل، زيارة النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار عامًا وخاصًّا.
[14] صحيح ابن حبان، كتاب الرقائق، باب الأدعية؛ ذكر الأمر بمسألة العبد ربه جل وعلا الحسنة في الدنيا والآخرة.
[15] صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب: إذا أسلم الصبي فمات.
[16] صحيح البخاري، كتاب الصلاة، باب: الصلاة على الحصير.
[17] صحيح البخاري، كتاب الصلاة، أبواب استقبال القبلة، باب إذا دخل بيتًا يصلي حيث شاء، أو حيث أمر.
[18] صحيح البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب: الصلوات الخمس كفارة.
[19] مسند أحمد بن حنبل، مسند الشاميين، حديث المستورد بن شداد.
[20] القديد: اللَّحم المملَّح والمجفَّف في الشمس.
[21] المعجم الأوسط؛ للطبراني، باب: الألف؛ من اسمه: أحمد.
[22] صحيح البخاري، كتاب المظالم والغصب، باب: إذا أذن إنسان لآخرَ شيئًا، جاز.