هيام محيي الدين تكتب: شقاوة
شقاوة
بقلم/هيام محى الدين
أول معاناة يعانيها الطفل حين يفطم عن ثدي أمه ؛ ودائمًا ما تمر هذه الفترة المضنية دون أن يذكر الطفل عنها شيئًا في هذه السن الباكرة ولكن المعاناة الحقيقة الأولى والمؤثرة هي فطام الطفل عن بيئته المنزلية أمه وأبيه وإخوته حين يذهب إلى المدرسة للمرة الأولى. لي صديقة حميمة تتميز بخاصية غريبة فهي تتمتع بذاكرة أسطورية تحوي تفاصيل طفولتها الباكرة بشكل مذهل؛ فهي تذكر معاناتها في العام الأول الذي التحقت فيه بالمدرسة ، فقد كانت طفلة الأسرة المدللة حبيبة أمها وحبة عين أبيها ومسامرة جديها كل يوم لديها لعبة جديدة ،
لا يرد لها طلب، ينطلق خيالها البكر فيصادق القمر؛ ويتحدث إلى النجوم ؛ وتشكل السحب لها أشخاصًا ومخلوقات أسطورية وجنيات وحوريات وملائكة ؛ وتقص أقاصيص خيالها عنهم على أفراد أسرتها فتلقى الإعجاب والانبهار والتشجيع وفجأة وجدت نفسها في مكان غريب له قوانين وأنظمة. في البداية تحمست لطابور الصباح وتحية العلم والنشيد الوطني مصر يا أم البلاد ..
أنت غايتي والمراد هذا البيت من النشيد كان يشيع فيها إحساسا بالزهو والفخار ؛ ولكن وآه من لكن حين قيدت حريتها في الحركة والكلام داخل الفصل ونالت على يديها الغضتين أول خيرزانتين عقابا على كثرة حركتها وعدم التزامها الصمت ثم أبلة عدلات المكتنزة الجسم ذات المؤخرة الهائلة والوجه المتجهم ؛ لقد أحست أن هذه المعلمة الصارمة تكرهها بوجه خاص؛ وبشكل شخصي وتتعمد إحراجها بكلامها الجارح وسخريتها منها ؛ وشكل وجه أبلة عدلات الأبيض السمين لوحة من لوحات الرعب للطفلة لدرجة حولت جميع شياطين خيالها الأشرار إلى مخلوقات ذات وجه أبيض سمين وفى لحظة من لحظات الشرود التى كانت الطفلة تهرب إليها خلال حديث المعلمة طرق سمعها صوت ناقوس الكنيسة الملاصقة للمدرسة يدعو لقداس الأحد،
ولما كانت تجلس إلى جانب النافذة المطلة على الكنيسة فقد استطاعت أن ترى جانبًا من قاعة المذبح ، واستمعت بشغف للمرة الأولى لأناشيدهم وتراتيلهم ؛ ولما كانت كمسلمة في هذه السن الباكرة لا تحسن الظن بالمسيحية أو بالكنيسة فقد تصورت أن المكان مليء بالجن والعفاريت وأن موسيقى الأرغن المصاحبة إنما هي أصوات هذه العفاريت ؛ واكتشفت أنها أصبحت تنتظر قداس الأحد بشغف وتعتاد على أنغام التراتيل الغريبة التي لا تفهم منها حرفا واحدًا ؛ وتحولت تصوراتها إلى وجود جنيات جميلات وعرائس طائرة تحلق فوق المرتلين كفراشات بيضاء وخضراء وصفراء ومختلطة الألوان ؛
وبدأت أذناها تتذوق الألحان وتحفظ بعض الكلمات. في صباح يوم ما ذهبت إلى المدرسة تجر قدميها في تثاقل ؛ كانت تعلم ما ينتظرها من أبلة عدلات فهي (ما عملتش الواجب) والعقوبة الصارمة لهذا الخطأ الفادح لن تقل عن عشر خيرزانات مؤلمة ؛ وحين دق جرس الطابور وجدت نفسها تتسلل إلى باب المدرسة وتغادرها إلى الكنيسة وتصعد إلى المذبح لتقبع جالسة خلف ستارة جانبية سوداء ؛ وتطلق لخيالها العنان لتستدعي الجنيات والحوريات وتحدثهن وتحرضهن على الانتقام لها من أبلة عدلات .. ومرت عليها ساعتان أو أكثر وهي مستغرقة في محاوراتها مع مخلوقاتها الخيالية ؛ حين وجدت الستارة تتحرك ويبدو أمامها جسد طويل نحيل يحمل وجها مستطيلا أبيض ويرتدي رداء سابغا بني اللون وتتدلى من عنقه سلسلة طويلة تحمل في وسطها صليبا معدنيًا ويحيط بالشعر خمار من نفس لون الرداء ؛ عرفت من ملامحها أنها إحدى راهبات الكنيسة اللاتي يقال لهن ” سسترات ” ؛
ربتت الراهبة بحنان على كتفيها وهي تنهضها من جلستها؛ وتسألها برقة شديدة عن سبب اختبائها في هذا المكان ؛ وجدت نفسها تكذب للمرة الأولى في حياتها ؛ فتنتحل اسما من خيالها وتقول إنها تأخرت عن موعد المدرسة وخافت أن تعود إلى المنزل حتى لا تعاقب ؛ ولم تذكر شيئًا عن أبلة عديلة ، ولا عن اسمها الحقيقي ، ولكنها لم تكن تعلم ما يحدث في الخارج ؛ فقد التقى والدها صدفة بأحد أصدقائه من مدرسي المدرسة الذي أكد له أن ابنته لم تذهب إلى المدرسة اليوم
؛ وانقلبت الدنيا في البيت والمدرسة بحثا عن الطفلة الغائبة ؛ ووصلت ضجة البحث والقلق إلى مسامع الأخت مادلين الراهبة ؛ التي اكتشفت بسهولة أن ضيفتها هي الطفلة التائهة التي انقلبت المنطقة والشوارع المحيطة بالنداء عليها والبحث عنها.
ونالت ليلتها من أبيها أول علقة ساخنة في حياتها. في صباح اليوم التالي حين دخلت الفصل لم تذهب إلى مقعدها بل وقفت خلف باب الفصل دخلت أبلة عدلات بجسدها المكتنز ووجهها السمين وخيرزانتها التي لا تفارقها وحين أصبحت مؤخرتها الهائلة في مواجهة صاحبتنا قفزت عليها بتصميم وغرست في لحمها المتراكم أسنانها المدببة الحادة في عضة تمساحية تحمل كل كراهية وانتقام الشهور السابقة ، صرخت أبلة عدلات صرخة مدوية بينما انفلتت الطفلة تعدو إلى المنزل. في نفس اليوم تم تحويل الطفلة إلى مدرسة أخرى