نسائم الإيمان ومع السيده آمنه بنت وهب أم النبى
بقلم / محمـــد الدكــــرورى
لقد عانت المرأة في الجاهلية ، من صنوف الاستعباد والاستبداد، ومن وأد البنات وانتقال المرأة بالميراث من الأباء إلى زوجات الأبناء، وغيرها ، إلا أننا غافلون عن أمومة السيده آمنة بنت وهب، وعن فضلها في إنجاب خاتم النبيين والمرسلين وسيد الخلق أجمعين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم .
وتفتحت عينا الفتاة والأم الجليلة آمنة بنت وهب في البيت العتيق في مكة المكرمة ، في المكان الذي يسعى إليه الناس من كل فج، ملبية نداء إبراهيم ” الخليل” عليه الصلاة والسلام في الناس بالحج، وفي ذلك المكان الطاهر المقدس ، وضعت السيدة ” آمنة بنت وهب ، سيد الخلق أجمعين النبى الكريم محمد صلى الله عليه وسلم ، في دار عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم ، وفى بيئة آبائه وأجداده ، ودار مبعثه صلى الله عليه وسلم .
آمنة بنت وهب الزهرية القرشية هي أم رسول الله الكريم محمد صَلَّي اللهُ عَلَيهِ و سَلّم، ماتت وعمر رسول الله صَلَّي اللهُ عَلَيهِ و سَلّم ستة سنوات، وهي آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.
وأمها هى برة بنت عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان ، وتندرج السيده آمنة بنت وهب ، من بني زهرة بن كلاب وهم أحد بطون قريش ذات المكانة العظيمة فقد كان أبوها وهب بن عبد مناف سيد بني زهرة شرفا وحسبا .
ولم يكن نسب السيده آمنة بنت وهب من جهة أمها، دون ذلك عراقة وأصالة فهي ابنة “برة بنت عبد العزى” من بني عبد الدار بن قصي أحد بطون قريش ، ويؤكد هذه العراقة والأصالة بالنسب اعتزاز الرسول بنسبه حيث قال: “لم يزل الله ينقلني من الأصلاب الطيبة إلى الأرحام الطاهرة مصفى مهذبا، لا تتشعب شعبتان إلا كنت في خيرهما” ويقول أيضا صلى الله عليه وسلم : “أنا أنفسكم نسبا وصهرا وحسبا”.
ونشأت السيده آمنه بنت وهب فى صباها في أعز بيئة، ولها مكانة مرموقة من حيث الأصالة النسب والحسب، والمجد، فكانت تعرف “بزهرة قريش” فهي بنت بني زهرة نسباً وشرفاً، فكانت مخبأة من عيون البشر، حتى إنَّ الرواة كانوا لا يعرفون ملامحها ، وقيل فيها إنها عندما خطبت لعبد الله بن عبد المطلب كانت حينها أفضل فتاة في قريش نسباً وموضعاً.
وقد عرفت آمنة في طفولتها وحداثتها ابن العم “عبد الله بن عبد المطلب” حيث إنه كان من أبناء أشرف أسر قريش، حيث يعتبر البيت الهاشمي أقرب هذه الأسر إلى آل زهرة ، لما لها من أواصر الود والعلاقة الحميمة التي تجمعهم بهم، عرفته قبل أن ينضج صباها .
وتلاقت معه في طفولتها البريئة على روابي مكة وبين ربوعها، وفي ساحة الحرم، وفي مجامع القبائل ، ولكنها حجبت منه ، عندما ظهرت عليه بواكر النضج، وهذا ما جعل فتيان مكة يتسارعون إلى باب بني زهرة من أجل طلب الزواج منها.
وكما نشأت في أسرة عريقة النسب، مشهود لها بالشرف والأدب، اتسمت بالبيان، وعرفت بالذكاء وطلاقة اللسان، وتعد أفضل امرأة في قريش نسباً ومكانة ، ورباها عمها وهيب بن عبد مناف ، وكان عبد المطلب سيد قريش وجد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد نذر لله إن رزقه الله عشرة من الذكور لينحرن أحدهم شكراً لله وتقرباً إليه.
وقد صار لعبد المطلب عشرة ذكور، وعزم على تنفيذ نذره، وعندما أقرع بينها وبين ولده، وقعت القرعة على الإبل، فسرّ عبد المطلب بذلك سروراً عظيماً ونحر الإبل المائة فداء ولده، وعمت الفرحة قريشاً بنجاة ابن سيدهم عبد المطلب ، ولم يكن “عبد الله بن عبد المطلب” بين الذين تقدموا لخطبة “زهرة قريش” رغم ما له من الرفعة والسمعة والشرف، فهو ابن عبد المطلب بن هاشم وأمه “فاطمة بنت عمرو بن عائذ المخزومية” وجدة “عبد الله” لأبيه “سلمى بنت عمرو”.
ولكن السبب الذي يمنع “عبد الله” من التقدم إلى السيده آمنه ، هو نذر أبيه بنحر أحد بنيه لله عند الكعبة ، حيث إن عبد المطلب حين اشتغل بحفر البئر، وليس له من الولد سوى ابنه “الحارث”، فأخذت قريش تذله، فنذر يومها، إذا ولد له عشرة من الأبناء سوف ينحر أحدهم عند الكعبة ، فأنعم الله على “عبد المطلب” بعشرة أولاد وكان “عبد الله” أصغرهم.
وخفق قلب كل شخص وهو ينتظر اللحظة ليسمع اسم الذبيح، وبقيت “آمنة”، لا تستطيع أن تترك بيت أبيها، ولكنها تترقب الأنباء في لهفة، وقد اختير “عبد الله” ليكون ذبيحا، ومن ثم ضرب السهم على “عبد الله” أيضا فبكت النساء، ولم يستطع “عبدالمطلب” الوفاء بنذره ، لأن عبد الله أحب أولاده إليه، وأتى الفرج فقد أشار عليهم شخص وافد من خيبر بأن يقربوا عشراً من الإبل ثم يضربوا القداح فإذا أصابه .
فزيدوا من الإبل حتى يرضى ربكم، فإذا خرجت على الإبل فانحروها، فقد رضي ربكم ونجا صاحبكم، وظلوا على هذه الحالة ينحرون عشرًا ثم يضربون القداح حتى كانت العاشرة، بعد أن ذبحوا مئة من الإبل ، وجاء “وهب” ليخبر ابنته عن طلب “عبد المطلب” بتزويج السيده آمنه ، بابنه “عبد الله” فغمر الفرح نفس “آمنة”، وبدأت سيدات آل زهرة تتوافد الواحدة تلو الأخرى لتبارك “لآمنة”.
وكذلك قيل بأن الفتيات كن يعترضن طريق “عبد الله” لأنه اشتهر بالوسامة، فكان أجمل الشباب وأكثرهم سحرا، حتى إنَّ أكثر من واحدة خطبته لنفسها مباشرة ، وأطالت “آمنة” التفكير في فتاها الذي لم يكد يفتدى من الذبح حتى هرع إليها طالباً يدها، زاهدا في كل أنثى سواها، غير مهتم إلى ما سمع من دواعي الجمال .
واستغرقت الأفراح ثلاثة أيام، ولكن عيناها ملأتها الدموع؛ لأنها سوف تفارق البيت الذي نشأت فيه، وأدرك “عبد الله” بما تشعر به، وقادها إلى رحبة الدار الواسعة ، وتزوج عبد الله آمنة بنت وهب، وفي أول ليلة جمعتهما رأت آمنة أن شعاعاً من النور خرج منها فأضاء الدنيا من حولها حتى تراءت لها قصور بصرى في الشام .
وسمعت هاتفاً يقول لها: يا آمنة لقد حملتِ بسيد هذه الأمة ، سافر زوجها في تجارة إلى الشام وتوفي في تلك الرحلة في يثرب ، وروى ابن عباس رضي الله عنهما أن آمنة قالت: ” لما أخذني ما يأخذ النساء ولم يعلم بي أحد لا ذكر ولا أنثى، وإني لوحيدة في المنزل، وعبد المطلب في طوافه، فسمعت وجبة عظيمة وأمرا عظيما هالني، ثم رأيت كأن جناح طير أبيض قد مسح على فؤادي فذهب عني الرعب وكل وجع أجده .
ثم التفت فإذا أنا بشربة بيضاء فتناولتها فأصابني نور عالٍ ، ثم رأيت نسوة كالنخل طوالا كأنهن من بنات عبد مناف يًحدقن بي، فبينا أنا أتعجب وأقول واغوثاه من أين علمن بي، فقلن لي: نحن آسية امرأة فرعون ومريم ابنة عمران وهؤلاء من الحور العين، واشتد بي الأمر ، فبينما أنا كذلك إذا بديباج أبيض قد مد بين السماء والأرض وإذا بقائل يقول خذوه عن أعين الناس.
وقالت ورأيت رجالا قد وقفوا في الهواء بأيديهم أباريق من فضة ثم نظرت فإذا أنا بقطعة من الطير قد غطت حجرتي مناقيرها من الزمرد وأجنحتها من الياقوت، فكشف الله عن بصري فرأيت مشارق الأرض ومغاربها، ورأيت ثلاثة أعلام مضروبات علما بالمشرق وعلما بالمغرب وعلما على ظهر الكعبة، فأخذني المخاض فوضعت محمدا صلى الله عليه وسلم .
فنظرت إليه فإذا هو ساجد قد رفع أصبعيه إلى السماء كالمتضرع المبتهل، ثم رأيت سحابة بيضاء قد أقبلت من السماء حتى غشيته فغيَّبته عني، فسمعت مناديا ينادي طوفوا به مشارق الأرض ومغاربها وأدخلوه البحارَ ليعرفوه باسمه ونعته وصورته، ثم تجلَّت عنه في أقرب وقت ، ثم نظرت إليه وإذا به كالقمر ليلة البدر وريحه يسطع كالمسك الأذفَر .
وإذا بثلاثة نفر في يد أحدهم إبريق من فضة وفي يد الثاني طَست من زمرّد وفي يد الثالث حريرة بيضاء فنشرها فأخرج منها خاتما تحار أبصار الناظرين دونه، فغسله من ذلك الإبريق سبع مرات، ثم ختم بين كتفيه بالخاتم ولفّه بالحريرة، ثم احتمله فأدخله بين أجنحتيه ساعة ثم رده إلي”.
وعندما حان الوقت التي كانت “آمنة” تترقبه حيث بلغ محمدٌ السادسة من عمره بعد العناية الفائقة له من والدته ، وظهرت عليه بوادر النضج ، فصحبته إلى أخوال أبيه المقيمين في يثرب ولمشاهدة قبر فقيدهما الغالي ، عبد الله .
وعندما وصلت إلى قبر زوجها عكفت هناك ما يقارب شهرا كاملا ، وهي تنوح وتتذكر الأيام الخوالي التي جمعتها مع زوجها بينما “محمد” يلهو ويلعب مع أخواله ، وبعد ست سنوات من وفاته وبينما هي عائدة من زيارة قبر عبد الله وأخواله بني عدي بني النجار أدركها المرض وتعبت “آمنة” في طريقها بين البلدتين إثر عاصفة حارة وقوية هبت عليهم.
فشعرت السيده آمنه ، بأن أجلها قد حان فكانت تهمس بأنها سوف تموت، ولكنها تركت غلاماً طاهراً، ثم أخذها الموت من بين ذراعي ولدها الصغير وفارقت هذه الدنيا ، وانهلت أعين الطفل بالبكاء بين ذراعي أمه، وتوفيت في الأبواء بين مكة والمدينة المنورة.
وماتت ” زهرة قريش” السيدة العظيمة، ولكنها خلدت في قلب أهل مكة، وفي قلب ابنها سيد البشر النبى الكريم محمد صلى الله عليه وسلم ، فهي عظيمة وأم لنبينا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد اختاره الله سبحانه وتعالى ، واصطفاه من بين البشر جميعا ليحمل رسالة عظيمة إلى شتى أنحاء العالم وللبشر.