أئمة الإسلام ومع الإمام مالك
بقلم / محمــــد الدكــــرورى
لا يفتى ومالك في المدينة ، وهو أن امرأة بالمدينة في زمن مالك غسلت امرأة فالتصقت يدها على فرجها فتحير الناس في أمرها: هل تقطع يد الغاسلة أو فرج الميتة ؟ فاستفتي مالك في ذلك فقال : سلوها ما قالت لما وضعت يدها عليها؟ فسألوها فقالت : قلت : طالما عصى هذا الفرج ربه، فقال مالك : هذا قذف، اجلدوها ثمانين تتخلص يدها، فجلدوها ذلك فخلصت يدها ، فمن ثم قيل : لا يفتى ومالك في المدينة .
فهو مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث الأصبحي ، وكان أبو عامر أبو جَدِّ مالك ، حليف عثمان بن عبيد الله التيمي القرشي، وكنيته أبو عبد الله من سادات أتباع التابعين، وجلّة الفقهاء والصالحين ، وأمه هي عالية بنت شريك الأزدية ، وُلِد بالمدينة المنورة سنةَ 93هـجريه الموافق 703ميلادى ، وعاش فيها.
بدأ الإمام مالك طلبه للعلم وهو غض طري، فحصل من العلم الكثير، وتأهل للفتيا، وجلس للإفادة وهو ابن إحدى وعشرين سنة، كما قصده طلاب العلم من كل حدب وصوب ، وقال مصعب الزبيري: ” كان مالك من أحسن الناس وجهًا، وأحلاهم عينًا، وأنقاهم بياضًا، وأتمهم طولاً في جودة بدن” ، وقال أبو عاصم “ما رأيت محدثًا أحسن وجهًا من مالك”.
ومولد مالك على الأصح في سنة ثلاث وتسعين، عام موت أنس خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وطلب مالك العلم وهو ابن بضع عشرة سنة، وقد حوى علم أهل الحجاز وخصوصا علماء المدينة، فقد تفقه على: نافع، وسعيد المقبري، وعامر بن عبد الله بن الزبير، وابن المنكدر، والزهري، وعبد الله بن دينار.
وتأهل للفتيا، وجلس للإفادة، وله إحدى وعشرون سنة، وحدث عنه جماعة وهو حي شاب طري، وقصده طلبة العلم من الآفاق في آخر دولة أبي جعفر المنصور، وما بعد ذلك، وازدحموا عليه في خلافة الرشيد، وإلى أن مات.
وكان الإمام رحمه الله يتزين لمجلس الحديث ، ويضفي عليه من الهيبة والجلالة ما لم يكن لغيره ، حتى قال الواقدي : ” كان مجلسه مجلس وقار وعلم ، وكان رجلا مهيبا نبيلا ، ليس في مجلسه شيء من المراء واللغط ، ولا رفع صوت ، وإذا سئل عن شيء فأجاب سائله لم يقل له من أين هذا ” .
ولإخلاصه في طلب العلم التزم أمورا وابتعد عن أمور ، فالتزم السنة والأمور الظاهرة الواضحة البينة ، ولذلك كان يقول : ” خير الأمور ما كان منها واضحا بَيِّنًا ، وإن كنت في أمرين أنت منهما في شك ، فخذ بالذي هو أوثق ” .
والتزم الإفتاء فيما يقع من المسائل دون أن يفرض رأيه، خشية أن يضل وأن يبعد عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والتزم الأناة في الإفتاء ، وكان يفكر التفكير الطويل العميق ، ولا يسارع إلى الإفتاء ، فإن المسارعة قد تجر إلى الخطأ .
ويقول ابن القاسم تلميذه : ” سمعت مالكا يقول : إني لأفكر في مسألة منذ بضع عشرة سنة ، ما اتفق لي فيها رأي إلى الآن ” وكان يقول : ” من أحب أن يجيب عن مسألة فليعرض نفسه على الجنة والنار ، وكيف يكون خلاصه في الآخرة ” .
وروى الترمذي بسنده عن أبي هريرة ، عن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم أنه قال: ” يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل يطلبون العلم، فلا يجدون أحدًا أعلم من عالم المدينة ” ثم قال : هو مالك بن أنس .
وقال أبو مصعب: ” كان مالك يطيل الركوع والسجود في ورده، وإذا وقف في الصلاة كأنه خشبة يابسة لا يتحرك منه شيء” ، وقالت فاطمة بنت مالك: ” كان مالك يصلي كل ليلة حزبه، فإذا كانت ليلة الجمعة أحياها كلها”.
قال ابن المبارك: “رأيت مالكًا فرأيته من الخاشعين، وإنما رفعه الله بسريرة كانت بينه وبين الله، وذلك أني كثيرًا ما كنت أسمعه يقول: من أحبَّ أن يفتح له فرجة في قلبه، وينجو من غمرات الموت، وأهوال يوم القيامة، فليكن في عمله في السر أكثر منه في العلانية”.
وقال سعيد بن أبي مريم: “ما رأيت أشد هيبة من مالك، لقد كانت هيبته أشد من هيبة السلطان” وقال الشافعي: “ما هبت أحدًا قَطُّ هيبتي مالك بن أنس حين نظرت إليه”.
ويلحظ أن في سيرة الإمام مالك ، عدة مواقف تدل على صيانته للعلم من الابتذال من الكبار والأمراء، وقد كان يربي طلابه على ذلك، فقد قال ابن وهب: ما نقلنا من أدب مالك أكثر مما تعلمنا من علمه ، ومن أشهر المواقف في ذلك موقفه مع الخليفة العباسي المهدي، فقد قدم المهدي المدينة، فبعث إلى مالك، فأتاه، فقال لهارون وموسى: اسمعا منه فبعث إليه، فلم يجبهما، فأعلما المهدي، فكلمه فقال:
يا أمير المؤمنين ، العلم يؤتى أهله ، فقال: صدق مالك، صيرا إليه ، فلما صارا إليه، قال له مؤدبهما: اقرأ علينا ، فقال: إن أهل المدينة يقرأون على العالم، كما يقرأ الصبيان على المعلم، فإذا أخطئوا، أفتاهم ، فرجعوا إلى المهدي، فبعث إلى مالك، فكلمه، فقال: سمعت ابن شهاب يقول: جمعنا هذا العلم في الروضة من رجال .
وهم يا أمير المؤمنين: سعيد بن المسيب، وأبو سلمة، وعروة، والقاسم، وسالم، وخارجة بن زيد، وسليمان بن يسار، ونافع، وعبد الرحمن بن هرمز، ومن بعدهم: أبو الزناد، وربيعة، ويحيى بن سعيد، وابن شهاب، كل هؤلاء يقرأ عليهم، ولا يقرءون. فقال: في هؤلاء قدوة، صيروا إليه، فاقرؤوا عليه، ففعلوا.
وكان للإمام مالك منهجٌ في الاستنباط الفقهي لم يدونه كما دوَّن بعض مناهجه في الرواية، ولكن مع ذلك صرح بكلام قد يستفاد منه بعض منهاجه، فقد ألمح إلى ذلك وهو يتحدث عن كتابه (الموطأ): ” فيه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقول الصحابة والتابعين ورأيي، وقد تكلمت برأيي، وعلى الاجتهاد، وعلى ما أدركت عليه أهل العلم ببلدنا، ولم أخرج من جملتهم إلى غيره”.
فهذه العبارة من الإمام تشير إلى بعض الأصول التي استند إليها في اجتهاداته واستنباطاته الفقهية، وهي: السنة، وقول الصحابة، وقول التابعين، والرأي، والاجتهاد، ثم عمل أهل المدينة.
وكان رحمه الله يكثر من قول لا أدي، وصح عنه أنه قال: جنة العالم: “لا أدري”، فإذا أغفلها أصيبت مقاتله ، وقال الهيثم بن جميل: سمعت مالكا سئل عن ثمان وأربعين مسألة، فأجاب في اثنتين وثلاثين منها بـ : لا أدري.
وعن خالد بن خداش، قال: قدمت على مالك بأربعين مسألة، فما أجابني منها إلا في خمس مسائل ، وعن ابن وهب عن مالك، سمع عبد الله بن يزيد بن هرمز يقول: ينبغي للعالم أن يورث جلساءه قول: “لا أدري”، حتى يكون ذلك أصلا يفزعون إليه.
قال البخاري: “أصح الأسانيد مالك عن نافع عن ابن عمر”. وقال سفيان بن عيينة: “ما كان أشد انتقاده للرجال”. وقال يحيى بن معين: “كل من روى عنه مالك فهو ثقة إلا أبا أمية”. وقال غير واحد: “هو أثبت أصحاب نافع والزهري”.
وقال الشافعي: “إذا جاء الحديث فمالك النجم”. وقال: “إذا جاءك الأثر عن مالك فشد به يدك” وقال أيضًا: “من أراد الحديث فهو عِيالٌ على مالك”.
والمذهب المالكي من المذاهب السنية المشهورة والمنتشرة في بلاد المغرب العربي بدوله المتعددة وجنوب مصر والسودان ومعظم البلاد الأفريقية، وأجزاء من ساحل الخليج العربي، وبعض الأسر في مكة والمدينة.
وورد عن مالك، أنه قال: قدم هارون يريد الحج، ومعه يعقوب أبو يوسف، فأتى مالك أمير المؤمنين، فقربه، وأكرمه، فلما جلس، أقبل إليه أبو يوسف، فسأله عن مسألة، فلم يجبه، ثم عاد، فسأله فلم يجبه، ثم عاد، فسأله، فقال هارون: يا أبا عبد الله ، هذا قاضينا يعقوب يسألك.
فقال: فأقبل عليه مالك، فقال: يا هذا ، إذا رأيتني جلست لأهل الباطل فتعال، أجبك معهم ، وكان من تعظيمه للعلم أن يسلم على الخلفاء دون أن يذل نفسه، فقد روى ابن وهب عن مالك، قال: دخلت على المنصور، وكان يدخل عليه الهاشميون، فيقبلون يده ورجله، وعصمني الله من ذلك.
ولقد سأله سائل مرة وقال : مسألة خفيفة ، فغضب وقال : مسألة خفيفة سهلة ، ليس في العلم شيء خفيف ، أما سمعت قول الله تعالى : ( إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا ) فالعلم كله ثقيل ، وخاصة ما يسأل عنه يوم القيامة .
ومع بُعدِ هذا الإمام عن الثورات والتحريض عليها ، واشتغاله بالعلم ، نزلت به محنة في العصر العباسي في عهد أبي جعفر المنصور ، سنة 146هـجريه ، وقد ضرب في هذه المحنة بالسياط ، ومدت يده حتى انخلعت كتفاه ، والسبب المشهور أنه كان يحدث بحديث : ” ليس على مستكره طلاق ” .
وأن مروجي الفتن اتخذوا من هذا الحديث حجة لبطلان بيعة أبي جعفر المنصور ، وأن هذا ذاع وشاع في وقت خروج محمد بن عبد الله بن الحسن النفس الزكية بالمدينة ، وأن المنصور نهاه عن أن يحدث بهذا الحديث ، ثم دس إليه من يسأله عنه ، فحدث به على رؤوس الناس ، فضربه والي المدينة جعفر بن سليمان ، وفي بعض الروايات أن أبا جعفر المنصور اعتذر للإمام مالك بعد ذلك بأن ما وقع لم يكن بعلمه .
ولقد عاش نحو تسعين سنة ، كان فيها إماما يروي ويفتي ، ويسمع قوله نحو سبعين سنة ، تنتقل حاله كل حين زيادة في الجلال ، ويتقدم في كل يوم علوه في الفضل والزعامة ، حتى مات ، وقد انفرد منذ سنين ، وحاز رياسة الدنيا والدين دون منازع ، وتوفى الإمام مالك رحمه الله بالمدينة سنةَ 179هـجريه الموافق 795ميلادى، عن خمسٍ وثمانين سنة، ودُفِن بالبقيع.