نسائم الإيمان ومع الخليفه المأمون ( الجزء الثانى )
إعداد / محمــــد الدكـــرورى
وكان المأمون ذا خبرة عظيمة في سياسة الحكم عالما بأحوال رعيته وخاصة باطنته وخواصه، وكان محبًا للعدل يرى فيه أساسًا لثبات الحكم وكان يجلس بنفسه للفصل بين الناس ويأخذ الحق من أي شخص كائنا ما كان وكان محبًا للعفو عن المخطئين وقال عن نفسه ” ليت أهل الجرائم يعرفون مذهبي في العفو، حتى يذهب الخوف عنهم” وكان يقول: ” أنا والله أستلذ العفو، حتى أخاف ألا أؤجر عليه، ولو عرف الناس مقدار محبتى للعفو، لتقربوا إلى بالذنوب ” وقال ” إذا أصلح الملك مجلسه، واختار من يجالسه، صلح ملكه كله ” وقد رفع إليه أهل الكوفة مظلمة يشكون فيها عاملا.
فوقَّع قائلا “عينى تراكم، وقلبى يرعاكم، وأنا مولّ عليكم ثقتى ورضاكم” وشغب الجند فرفع ذلك إليه، فوقَّع قائلا : ” يعطون على الشغب، ولا يحوجون إلى الطلب ” وقيل أنه وقف أحمد بن عروة بين يديه، وقد صرفه على الأهواز، فقال له المأمون: ” أخربتَ البلاد، وأهلكت العباد، فقال: يا أمير المؤمنين، ما تحب أن يفعل الله بك إذا وقفت بين يديه، وقد قرعك بذنوبك؟ فقال: العفو والصفح، قال: فافعل بغيرك ما تختار أن يفعل بك، قال: قد فعلت، ارجع إلى عملك فوالٍ مستعطف خير من وال مستأنف” وكتب إلى على بن هشام أحد عماله.
وقد شكاه غريم له: ” ليس من المروءة أن تكون آنيتك من ذهب وفضة ويكون غريمك عاريًا، وجارك طاويًا ” وقيل أنه كان كريمًا بصورة تصل إلى السرف حتى يقال أنه أنفق في عرسه على ” بوران بنت الحسن ” ما يوازي خمسين مليون درهم، وكان فيه شهامة عظيمة وقوة جسيمة في قتال الكافرين، خاصة الروم الذي حاصرهم وصابرهم مرات كثيرة، وباشر القتال بنفسه، وكان يستمع إلى النصيحة ويرجع إلى الحق، وقد أمر يومًا بإباحة نكاح المتعة “وهذا يوضح أثر التشيع على المأمون لأن نكاح المتعة مباح عند الشيعة، فدخل عليه القاضي يحيى بن أكثم مهمومًا مغتمًا.
فقال له المأمون: مالك يا يحيى؟ قال له يحيى: أبيح اليوم الزنا يا أمير المؤمنين، فارتعد المأمون قائلًا: وكيف ذلك ؟ قال يحيى: أبيح اليوم نكاح المتعة، فقال المأمون: وهل هو زنا ؟ قال يحيى: يا أمير المؤمنين قل لي عن زوجة المتعة: هل هي التي ترث أو تعتد أو هي ملك يمين؟ فقال المأمون: كلًا ، فقال يحيى: إذا هي زنا، فقال المأمون: أستغفر الله من ذلك، وأمر مناديًا بتحريم المتعة، وهكذا كان المأمون، حتى لقد وصفه الواصفون بأنه من أفضل رجال بنى العباس، حزمًا وعزمًا وحلمًا وعلمًا ورأيًا ودهاءً، وقد سمع الحديث عن عدد كبير من المحدّثين، وبرع فى الفقه واللغة العربية والتاريخ.
ومن سرعة بديهة المأمون وسعة فقهه في الدين، أن امرأة جاءت إليه وهو في مجلس من العلماء، وقالت له: يا أمير المؤمنين مات أخي وخلف ستمائة دينار، أعطوني دينارا واحدا، فأخذ المأمون يحسب ثم قال لها: هذا نصيبك، فقال له العلماء: كيف علمت يا أمير المؤمنين؟ فقال: هذا الرجل خلف ابنتين، قالت: نعم، قال فلها الثلثان أربعمائة، وخلف والدة فلها السدس مائة، وخلف زوجة فلها الثمن خمسة وسبعون، وباالله: ألك اثتا عشر أخا؟ قالت: نعم، قال: أصابهم ديناران وأصابك دينار، وكان المأمون من حفظة القرآن كثير التلاوة، حتى أنه كان يتلو في رمضان ثلاثًا وثلاثين ختمة.
وكانت له بصيرة بعلوم متعددة، فقهًا وطبًا وشعرًا وفرائض وكلامًا ونحوًا حتى علم النجوم، وقد استوزر الحسن بن سهل وتزوج المأمون سنة مائتين وعشره من الهجره بوران ابنة الحسن بن سهل، وبقي وزيرا حتى عرضت له سوداء فانقطع بداره ليتطبب واحتجب عن الناس، فاستوزر المأمون أحمد بن أبي خالد، وإن ضعف السلطة المركزية في بغداد نتيجة للفتن والحروب التي تخللت عصر الأمين وأوائل عصر المأمون قد انتقلت عدواها إلى الأقاليم الإسلامية، إلى مصر والمغرب، وقامت القبائل والعشائر العربية والجزيرة بثورات مختلفة بقيادة زعيم عربي اسمه نصر بن شبث العقيلي.
وقد اختلفت تلك الثورات فى مدى عنفها وشدتها، واستطاع المأمون القضاء عليها جميعًا، ويذكر أن أولى الثورات بدأت منذ بدايات عهد المأمون، أثناء إقامته في مرو بخراسان، ذلك أن تحيزه للفرس أثار غضب أهل العراق من بني هاشم ، لهذا كانت أول ثورة قامت ضد المأمون كانت ثورة عربية وكان مركزها مدينة الكوفة بالعراق، وكان من أخطر هذه الثورات جميعًا ثورة مصر، ذلك أن جند مصر كانوا قد اشتركوا فى خلافات الأمين والمأمون، وكل فريق فى جانب، وبعد أن انتهى الخلاف بفوز المأمون، ظل الخلاف قائمًا بين جند مصر، وأصبح موضع الخلاف التنافس على خيرات مصر.
فكان الجند يجمعون الخراج لا ليرسل للخليفة، بل ليحتفظوا به لأنفسهم، وقد قامت جيوش المأمون كثيرا بمحاربتهم مع أهل مصر الذين شاركوا فى هذه الثورات، ولكن هذه الثورات ما لبثت أن أشعلت من جديد حتى أرسل إليهم جيشا ضخما، فاستطاع القضاء على الثورة نهائيًا، كما تمكن قائده طاهر بن الحسين من القضاء على ثورات العرب أنصار الأمين، وقد نجح المأمون بتوطيد سلطانه والقضاء على معظم الثورات إلا ثورة الزط في جنوبي العراق، وثورة بابك الخرمي التي استفحل أمرها في عهد المأمون ولم يتم القضاء عليها إلا في خلافة المعتصم بالله، وكانت سياسة المأمون نحو الإمبراطورية الرومانية المقدسة
وتشمل وسط أوروبا وإيطاليا، استمرارا لسياسة والده الرشيد التي تقوم على المصادقة، وعلى الرغم من أن وفاة شارلمان حدثت في العام التالي من خلافة المأمون سنة مائه تسعه وتسعين من الهجره، إلا أن ذلك لم يحل دون استمرار سياسة التفاهم مع ولده لويس التقي، إذ تشير المصادر الأوروبية إلى أن الإمبراطور لويس أرسل سفارة إلى البلاط العباسي في بغداد في عهد المأمون سنة مائتين وستة عشر من الهجره، وأما عن علاقة المأمون بالإمبراطورية البيزنطية وتشمل شرق أوروبا والقسطنطينية، فكانت سياسة عدائية على غرار سياسة آبائه من قبل.
وكان المأمون يكتب إلى عمّاله على خراسان فى غزو من لم يكن على الطاعة والإسلام من أهل بلاد ما وراء النهر، ولم يغفل المأمون عن قتال الروم، بل غزاهم أكثر من مرة، فقاد المأمون في السنوات الأخيرة من حياته جيوشه بنفسه وتوغل في الأراضي البيزنطية في آسيا الصغرى مابين سنة مائتين وأربعة عشر من الهجره، الى سنة مائتين وثمانية عشر من الهجره، وجعل معظم إقامته في الشام متخذًا دير مُران في دمشق مقرا له، وأهم ما تميزت به حروب المأمون مع البيزنطيين اتخاذه موقف الهجوم، وتغلغله في الأراضي البيزنطية، وفي حملته الثالثة تحقق حلم المأمون بالاستيلاء على حصن لؤلؤة الذي يسيطر على مفارق الطرق.