نسائم الإيمان ومع الربيع بن يونس ( الجزء الأول )
إعداد / محمـــد الدكـــرورى
الربيع بن يونس بن محمد بن عبد الله بن أبي فروة، وأبي فروة كيسان هو مولى عثمان بن عفان، والربيع بن يونس وإنما قيل لجده أبو فروة لأنه أدخل المدينة وعليه فروة، فاشتراه عثمان رضي الله عنه وأعتقه، وجعل يحفر القبور، وكان من سبي جبل الخليل صلى الله عليه وسلم، وقطيعة الربيع منسوبة إليه، وهي محلة كبيرة مشهورة ببغداد، وإنما قيل لها قطيعة الربيع لأن المنصور أقطعه إياها، فهو أبو الفضل الربيع بن يونس الأموي وكان وزيرا وحاجب عباسي، وقد تولى منصب حاجب الخليفة المنصور ، ثم وزيرا له بعد أبي أيوب المورياني وكان من نبلاء الرجال، وألبائهم وفضلائهم.
وقد قال له الخليفه المنصور ما أطيب الدنيا لولا الموت، فقال: يا أمير المؤمنين ما طابت إلا بالموت، قال وكيف، قال: لولا الموت لم تقعد هذا المقعد، وقال له المنصور لما حضرته الوفاة، يا ربيع، بعنا الآخرة بنومة، وقال الربيع كنا يوما وقوفا على رأس المنصور وقد طرحت لولده المهدي، وهو يومئذ ولي عهده وسادة إذ أقبل صالح بن المنصور، وكان قد رشحه أن يوليه بعض أموره، فقام بين السماطين، والناس على قدر أنسابهم ومراتبهم، فتكلم فأجاد، فمد المنصور يده إليه، وقال إلي يا بني، واعتنقه، ونظر إلى وجوه الناس، هل فيهم من يذكر مقامه ويصف فضله؟ فكلهم كرهوا ذلك بسبب المهدي خيفةً منه.
فقام شبة بن عقال التميمي، فقال لله در خطيب قام عندك يا أمير المؤمنين، ما أفصح لسانه، وأحسن بيانه، وأمضى جنانه، وأبل ريقه، وأسهل طريقه، وكيف لا يكون كذلك، وأمير المؤمنين أبوه، والمهدي أخوه؟ وهو كما قال الشاعر، هو الجواد فإن يلحق بشأوهما، على تكاليفه فمثله لحقا، أو يسبقاه على ما كان من مهل، فمثل ما قدما من صالح سبقا، فعجب من حضر بجمعه بين المدحين وإرضائه المنصور وخلاصه من المهدي؛ قال الربيع: فقال لي المنصور: لا يخرج التميمي إلا بثلاثين ألف درهم، فلم يخرج إلا بها، وكان كثير الميل إليه حسن الاعتماد عليه، قال له يوما، يا ربيع سل حاجتك.
فقال حاجتي يا أمير المؤمنين أن تحب الفضل ابني، فقال له ويحك إن المحبة تقع بأسباب، فقال له قد أمكنك الله من إيقاع سببها، قال وما ذاك؟ قال تفضل عليه، فإنك إذا فعلت ذلك أحبك وإذا أحبك أحببته، قال قد والله حببته إلي قبل إيقاع السبب، ولكن كيف اخترت له المحبة دون كل شيء؟ قال: لأنك إذا أحببته كبر عندك صغير إحسانه، وصغر عندك كبير إساءته، وكانت ذنوبه كذنوب الصبيان، وحاجته إليك حاجة الشفيع العريان، وقد أشار بقوله الشفيع العريان إلى قول الفرزدق الشاعر، عندما قال ليس الشفيع الذي يأتيك متزرا، مثل الشفيع الذي يأتيك عريانا.
وهذا البيت من جملة أبيات في عبد الله بن الزبير بن العوام لما طلب الخلافة لنفسه واستولى على الحجاز والعراق في أيام عبد الملك بن مروان الأموي، وكان قد اختصم الفرزدق وزوجته النوار، فمضيا من البصرة إلى مكة، ليفصل الحكم بينهما عبد الله بن الزبير، فنزل الفرزدق عند حمزة بن عبد الله، ونزلت النوار عند زوجة عبد الله، وشفع كل واحد منهما لنزيله، فقضى عبد الله للنوار وترك الفرزدق، فقال الأبيات المذكورة، فصار الشفيع العريان مثلا يضرب لكل من تقبل شفاعته، وقد قال أبان بن صدقة كنت أخلف الربيع على كتبه للمنصور، فدخلت يوماً وعلي خز أسود جديد والمنصور في قباء خز خلق.
فجعل ينظر إلي فضاقت علي الدنيا، وخرج الربيع فقلت إني أخطأت خطأً عظيماً، وعرفته الخبر فقال ما ذاك إلا لخير فلا يحزنك، فلما كان من غد دخلت في قباء خز خلق فقال لي المنصور، أما عندك أحسن من هذا تلبسه أمام المنصور؟ قلت بلى، ولكن رأيت أمير المؤمنين لبس قباء خلقا وكان علي قباء جديد فضاقت علي الرض إذ لبست أفضل من لباسه، فقال لا تفعل، ألبس خير ما عندك في خدمتي ليتبين الناس إحساني إليك ولا تلبس مثل هذا فيظن بي إساءة إليك، فإن الناس يعلمون أني أقدر على أشرف اللباس وإن لم ألبس وأنت فلا يظن ذلك بك، قال فعلمت أن الربيع أعقل الناس وأعلمهم بأخبار أمير المؤمنين.
وكان أبو جعفر إذا أراد بإنسان خيرا أمر بتسليمه إلى الربيع، وإذا أراد به شرا سلمه للمسيب، فكتب عامل فلسطين يذكر أن بعض أهلها وثب واستغوى جماعة وعاب في العمل، فكتب إليه أبو جعفر، دمك بواء بدمه إلى أن توجه به إلي، فأخذه ووجه به إليه، فلما دخل عليه قال أنت المتوثب على عامل أمير المؤمنين؟ لأنثرن من لحمك أكثر ما بقي منه على عظمك، فقال له بصوت ضئيل، وكان شيخا كبيرا، أتروض عرسك بعد ما هرمت، ومن العناء رياضة الهرم، فقال أبو جعفر يا ربيع، ما يقول، فقال هو يقول، العبد عبدكم والمال مالكم، فهل عذابك عني اليوم مصروف، فقال قد عفوت عنه، فخلى سبيله وأحسن إليه.