نسائم الإيمان ووقفه مع حادثة البرامكه ( الجزء الثانى )
إعداد / محمـــد الدكـــرورى
نكمل الجزء الثانى ومع حادثة البرامكه مع هارون الرشيد ، ولم يكن الخليفة هارون الرشيد هو أول خليفة غضب من جُرم وزيره فقتله، وزجَّ بأهله وقرابته في السجن، كما حدث من قتلة جعفر بن يحيى البرمكي وإيقاعه بأُسرته، ولكن نزول ذلك فجأة من غير إعلان السبب، أو ذكر شيء عن السر في هذه النكبة، ومع ما للبرامكة في نفوس الناس من شأن كبير، نتيجة للدعاية الواسعة التي أحاطوا أنفسهم بها، وما عُرف من صلتهم بالرشيد، وحبه لهم وثقته فيهم، وهذا دفع الفضوليين إلى انتحال تفسيرات لا حقيقة لها.
والحاقدين إلى اختلاق الإشاعات والتهم التي لا أصل لها، وكان البرامكة من المقرّبين جداً من هارون الرشيد، حتى إن يحيى بن خالد بن برمك هو من قام برعاية هارون الرشيد في طفولته، وكان لا يناديه إلّا بقول: يا أبي، فعندما تولّى هارون الرشيد الخلافة، وامتلك زمام الأمور في الدولة، عيّن يحيى على وزارته، وقال له: قلدتّك أمر الرعية، وأخرجته من حقي إليك، فاحكم في ذلك بما ترى من الصواب، واستعمل من رأيت، وأعزل من رأيت، فهو تفويض كامل له للقيام بأمورالدولة أحسن قيامٍ، حتى كان لقبهم زهرة الدولة العباسية.
وذلك لما كان من حُسن قيادتهم للجيش، وتدبيرهم لأمور الدولة، وحدث أن تغير الحال بين هارون الرشيد والبرامكة، مما أدى إلى حدوث ما يُسمّى بنكبة البرامكة، مما دفع المؤرخين إلى تأليف الإشاعات، فمنهم من قال ببراءة للبرامكة، وأن سبب النزاع كان نزوة غضب من هارون الرشيد، ومنهم من افترى قصصا غير حقيقة ولا أصل لها، وبعض المؤرخين اعتمد من تلك الإشاعات والتفسيرات ما يتفق مع أهوائهم، وشوَّهوا بها حقائق التاريخ، وجاء بعض كُتَّاب التاريخ المتأخرين، فنسجوا على منوالهم.
وزعموا أن نكبة البرامكة حدثت بلا جريرة منهم، وأنها غدر وعدم وفاء من الرشيد، ونزوة طارئة من نزوات غضبه المعتادة، وتناسوا أن المصادر التاريخية الدقيقة ترفض هذه الإشاعات، وتشير إلى الأسباب الصحيحة، كما تثبت تلك المصادر ما كان عليه الرشيد من صلاح وتقوى، وأنه كان لا يضيع عنده إحسانُ محسن، ولا يؤخر ذلك في أول ما يجب ثوابه، وأنه كان من أحكم الناس، وأقدرهم على كظم غيظه، ومن الإشاعات التي وضعها العامة سببًا لنكبة البرامكة، ويرفضها المنطق والسند الصحيح.
وهى قصة العباسة بنت المهدي، أخت هارون الرشيد، وملخص القصه، وهى أن الرشيد كان لا يصبر عن جعفر بن يحيى، والعباسة أخته، إذا جلس للشراب، فأراد أن يحضرهما معا في مجلسه ذاك، ولكن الشرع الإسلامي يحول دون جمعهما، فجعفر غريب عنها ومُحرَّم عليها، فاحتال الرشيد للأمر، بأن يزوجه منها لتحل له رؤيتها ومجالستها، فقال لجعفر: أزوجكما على ألا يكون منك شيء مما يكون للرجل إلى زوجته، فقَبِل جعفر، وعقد قرانهما، ولكن جعفر اتصل بها، فيما بعد، كزوجة له، فحملت منه طفلا، خافت عليه من أخيها.
فأبعدتْه إلى مكة، وعلم الرشيد بالأمر، فغضب على جعفر، وانقضّ على البرامكة لهذا السبب، وقيل أن الرشيد لم يكن مبتذلاً في مجالسه، ماجنًا تافهَ الرأي بحيث لا يصبر عن جمع أخته مع رجل محرَّم عليها، وكان شديد التمسك بقوميته العربية، فكيف يُزوِّج أخته، وهي من هي بين قومها، برجل فارسي، في حين كان الوسط من العرب يأنفون من ذلك؟ ولو أراد هو مخالفة هذه التقاليد، فكيف يزوجها على هذا الشرط السخيف؟ وكيف يتبع هذه الأساليب الخفية المريبة في تزويج أخته دون أن يكون لهذا الزواج مراسيم.
تليق بمكانة العروسين؟ ودون أن يعلم أحد بذلك، وأخيرًا فإذا كان قد زوجها من جعفر، وأصبحت زوجة شرعية له، فكيف يسمح له ضميره ودينه وتقواه أن يقتل طفلاً بريئًا هو ثمرة مشروعة لزواج شرعي صنعه بيده، ثم يقتل أباه وهو زوج أخته ووزيره الحبيب إليه؟ ثم يقتل أخته الأثيرة عنده؟ ولم نعثر على خبر واحد صحيح لمجلس أُنس حضرته العباسة مع أخيها الرشيد، لقد كان الرشيد من أشد الناس غيرة على نساء أسرته، وكان يغضب إذا سمع جارية من جواري أخته “عَلِيَّة” تُغني بشيء من شعرها أمام أحد من الناس.
وكان الأصمعي يضع، كمه على رأس ” مواسة ” بنت الرشيد وهي طفلة صغيرة، ويُقَبِّل كمه، خوفًا من غَيْرة أبيها وبطشه، فكيف يصح القول بأن الرشيد كان لا يصبر عن مجالسة أخته العباسة بحضور رجل غريب عنها، وإن أصبح زوجها؟ وأكثر من ذلك، فإن العباسة كانت متزوجة محصنة، ولكنها منكوبة منكودة الحظ في زواجها، ثم تزوجت ثانية بوالي مصر ” إبراهيم بن صالح الهاشمي ” فمات.
وأيضا قيل: تزوجت بأمير ثالث، ونظموا في ذلك الأشعار، فكيف تستطيع إذا هذه البائسة الكئيبة، التي ما خرجت من ترمل وحزن إلا لتدخل في ترمل وحزن آخر، أن تحضر مجالس الأنس والسمر مع الرشيد وجعفر، فتمرح وتنطلق بينهما، وتتظرف وتتندر؟