الدكتور الهلالى الشربينى الهلالى وزير التعليم السابق يكتب: حدائق الخالدين وتربية الولاء والانتماء للوطن
الدكتور الهلالى الشربينى الهلالى
تمثل اللافتات التى تحمل أسماء الشوارع والمدارس والميادين ومحاور الطرق فى أى بلد من البلدان صفحات فى كتاب يروى تاريخ هذا البلد أو ذاك وما مر به من أحداث عظام أو جسام فى فترات زمنية معينة داخليًا وخارجيًا.
وقد ظلت تسمية الشوارع فى مصر غير معروفة حتى بداية عهد محمد على (1848-1805)؛ حيث كانت المدن تقسم إلى مناطق تحمل كل منطقة اسم قبيلة سكنتها فى البداية، أو أرباب حرفة أو صنعة تجمعوا وجاءوا إليها، أو صاحب قصر بُنى فيها وهكذا، وعندما تولى محمد على حكم مصر أصدر مرسومًا بتحديد أسماء للشوارع وتركيب لافتات فى مداخلها تدل عليها، ووضْع أرقام للمبانى من منطلق أن قراءة تاريخ أى مدينة تبدأ من التعرف على شوارعها ومدارسها، وما تحمله من لافتات تمثل ذاكرة للأمة حول الأزمنة التى مرت بها والأحداث التى شهدتها، والشخصيات المؤثرة التى برزت فيها، والتى أسهمت فى تجاوز تلك الأحداث والمحافظة على وحدتها وتماسكها وبناء نهضتها وتقدمها.
وقد اتخذت مدارس وشوارع المدن المصرية منذ عهد محمد على أسماء ملوك وزعماء وحكام وعلماء وسلاطين وشهداء وشخصيات مشهورة ومنظمات عربية وإقليمية ودولية معروفة، وغير ذلك، وبالطبع كان وراء كل تسمية لمدرسة أو شارع أو محور أو ميدان أو مشروع تاريخٌ كبير، وقد كثرت المدن المصرية فى العصر الحديث نتيجةً للامتدادات العمرانية من ناحية والتوسع فى إنشاء المدن الجديدة من ناحية أخرى، وأُطلق على الكثير من مدارسها وشوارعها ومشروعاتها أسماء من حقب تاريخية تركت آثارها فى ذاكرة الأمة وتحمل فى طياتها جزءًا من تاريخ هذا الوطن العظيم، وعلى الرغم من التحديث والتطوير الذى لا يتوقف لتلك الشوارع والمدارس تبقى أسماؤها شامخة تصل الماضى بالحاضر والمستقبل، وتحكى كم من أجيال مرت بها أو تعلمت فيها، وكم من خطى مشت عليها، وكم هى وحدها الشاهدة على ما ضمته بين جوانبها من أحداث وشخوص وحكام قدموا قدوة ونموذجًا فى حب الوطن والولاء له والانتماء إليه.
والواقع أننى فى هذا المقال أحاول أن أستكشف كيفية تسمية الشوارع والمدارس فى عصرنا الحديث وبصفة خاصة فى العقود القليلة الماضية؛ حيث تلاحظ فى الآونة الأخيرة تسمية كثير من المدارس والشوارع بأسماء مجهولة، أو بأسماء بعض الشهداء، وبعض من قدموا خدمات أخرى جليلة للوطن دون غيرهم، وذلك كرد فعل من بعض المسئولين تجاه حملة تنطلق فى وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعى حول حدث ما، ربما تعاطفًا أو تفاعلًا مع الشخص أو الحدث دون الاستناد إلى قواعد أو معايير محددة، الأمر الذى أثار اللغط حول تسمية محطة جديدة للمترو باسم الفاضلة المرحومة صفاء حجازى، قيل إن موقعها سيكون فى مواجهة مجمع الخالدين بالزمالك، مما دفع البعض للمطالبة بتسمية هذه المحطة باسم المجمع، على اعتبار أن تسميتها باسم المجمع – الذى أنشئ بمرسوم ملكى فى عام 1932، ويعد ثانى أقدم مجامع اللغة العربية فى العالم، ويضم نصف أعضائه من العرب والمستشرقين – يعطى دلالة على ريادة مصر الثقافية والتاريخية ويخاطب وجدان المصريين والعرب والأجانب الذين يترددون على هذه المحطة أكثر من أى اسم آخر، خاصة أن مبنى المجمع سيكون فى مواجهة القادمين للمحطة والمغادرين منها، مع التأكيد على أنه لا بأس على الإطلاق من أن يطلق اسم الإعلامية المحترمة صفاء حجازى على مكان آخر له علاقة بطبيعة عملها والخدمات الجليلة التى قدمتها للوطن حتى يكون هناك دلالة أيضًا ومغزى من التسمية كأن يطلق اسمها على أحد المشروعات الإعلامية فى مثلث ماسبيرو أو فى العاصمة الإدارية الجديدة أو غيرهما مثلما حدث وأطلق اسم طبيب الغلابة الدكتور محمد مشالى على المركز الطبى الذى كان يديره بمدينة طنطا بمحافظة الغربية.
والحقيقة أن ما حدث فى أمر تسمية محطة المترو المشار إليها يعود إلى أن بعض من يقدمون خدمات جليلة للوطن من الشهداء وغيرهم يتم إطلاق أسمائهم على الشوارع والمدارس وغيرها من خلال نظام تقليدى مألوف غالبًا ما لا تحكمه قواعد أو معايير محددة وواضحة؛ ومن ثم نجد من يتم إطلاق اسمه فجأة على شارع أو مدرسة فى منطقة هو ليس من أبنائها كرد فعل لحماس زائد أو انفعال وقتى من طرف أحد المسئولين، ومن ثم تكون النتيجة مع مرور الوقت أن ينسى حتى من يعيشون فى ذلك الشارع أو تلك المدرسة قصة هذه التسمية، وينتفى الهدف منها والمتمثل فى تكريم صاحب الاسم من ناحية وتعريف الناس على امتداد الزمن بما قدمه من خدمات جليلة للوطن كنموذج يحتذى فى تربية الولاء والانتماء للوطن لدى الأجيال المتعاقبة.
وغالبا ما تؤدى هذه الطريقة الانفعالية فى اختيار الأسماء التى يتم تكريمها إلى سقوط أسماء بعض الشهداء والشخصيات المهمة، واختفائها مع مرور الوقت من ذاكرة الأمة ودخولها فى طى النسيان، الأمر الذى جعل الرئيس عبدالفتاح السيسى يوجه اللواء أحمد العزازى، مساعد رئيس الهيئة الهندسية، بتسمية الشوارع فى المدن الجديدة، والمشروعات القومية بأسماء شهداء الوطن من رجال الجيش والشرطة، وكذلك الأطباء، ليرد عليه قائلًا: «تمام يافندم ومشروعات البشائر حصل فيها كده»، ومن ثم فالسؤال الذى يطرح نفسه هنا هو: على من تقع مسئولية اختيار الشهداء وغيرهم ممن قدموا خدمات جليلة للوطن لكى تسمى الشوارع والمدارس بأسمائهم؟ وهل هناك قانون يحدد مثل هذ الأمور ويتم الالتزام به بوضوح وشفافية؟
وحيث إن الشهداء وغيرهم ممن قدموا خدمات جليلة للوطن قد ضحوا بأرواحهم من أجل المحافظة على وحدة هذا الوطن وتماسكه وسلامة أراضيه لكى نعيش وننعم نحن وأبناؤنا وأحفادنا من الأجيال القادمة، وحيث إنهم منتشرون فى كل أرجاء الوطن، فقد يكون من الحكمة أن نخصص مساحة من الأرض فى كل محافظة وبصفة خاصة فى المدن الجديدة ونطلق عليها حديقة الخالدين ونضع لها قواعد ومعايير محكمة يتم فى ضوئها وضع تمثال متوسط لكل من قدم خدمات جليلة للوطن من أبناء هذه المحافظة بهذه الحديقة، ويتم غرث شجرة من النوع المعمر بجانب هذا التمثال، ويوضع بجانبه لوحة من الجرانيت محفور عليها قصته، أين ومتى عاش، وكيف انتهت حياته، وبعض الخدمات الجليلة التى قدمها للوطن، ويتم تحويل هذه الحدائق إلى مزارات لطلاب المدارس والجامعات لتكون أيضًا مرجعًا مبدئيًا لكل من يريد أن يجرى بحثًا أو دراسة عن أى من هؤلاء، ويفرض على كل معلمى الأنشطة ومادة التاريخ فى كل المدارس بكل أنواعها أن يصطحب كل منهم تلاميذه إلى هذه الحدائق مرة أو أكثر فى السنة يشرح لهم خلالها كيف ضحى آباؤهم وأجدادهم بأرواحهم من أجل الحفاظ على هذا الوطن ويربط ذلك بالموضوعات التى وردت بالمناهج الدراسية حول قضية الولاء والانتماء وحب الوطن.
ويمكن أن تنشأ على هامش هذه الحدائق بعض الأنشطة الترفيهية والتعليمية والثقافية الأخرى، كما يمكن للدولة أن تخصص الأرض بنظام حق الانتفاع وتطرحها على المستثمرين ليقيموا عليها هذه المشروعات بنظام التريبل بـ PPP بعيدًا عن الموازنة العامة للدولة. والله ولى التوفيق.