الدكرورى يكتب عن وداع رمضان ” الجزء الخامس “
بقلم: محمـــد الدكـــرورى
ونكمل الجزء الخامس مع وداع رمضان، وقد توقفنا عند قوله تعالى ” فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا” فما بالنا وقد أخبرنا النبي عليه الصلاة والسلام بالمثوبة والأجر في هذا العمل العظيم والركن الركين، والأساس المتين في هذا الدين، ثم بعد ذلك نفرط هذا التفريط وكنا في هذا الشهر ممن يخاطبون، فيقول الله تعالى “الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون” فهل ننتكس بعد ذلك ونرتكس ويكون حالنا كمن قال الله تعالى في شأنهم عن المنافقين “ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون، فأعقبهم نفاقا فى قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون” فلا ينبغي لنا أن ننزل عن مرتبة المنفقين المسارعين في البذل والإنفاق حتى نصل بعد ذلك وفى نهاية الشهر إلى الوصف الذميم الذي ذكر النبي عليه الصلاة والسلام كما رواه احمد.
“أن المؤمن يطبع على الخلال كلها إلا الكذب والخيانة” وقد ذم النبي عليه الصلاة والسلام البخل والشح فينبغى لنا أن نبرأ من هذا الداء العضال وقد تبرأنا منه طيلة الشهر فلا ينبغي لنا أن نعود كما قال تعالى “الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا” وكيف بنا وقد كان لنا عظيم الصلة بكتاب الله عز وجل وكنا مقبلين على تلاوته نرطب به ألسنتنا، ونمتع به أسماعنا، ونحيي به قلوبنا، ونتذكر به أوامر ربنا، ويحق فينا بإذنه قوله تعالى “إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية يرجون تجارة لن تبور” وكنا ممن يصدق فيهم وصفه سبحانه وتعالى “وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا” فكيف بنا بعد ذلك نرتد للقرآن هاجرين وعن آياته منقطعين وعن أوامره غافلين وقد يصدق في بعض منا قوله تعالى “وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم” وقبل هذه الآية ما يدل على كيفية استبدال الناس بالقرآن بغيره.
من الغناء ومن اللهو والعبث ومزامير الشيطان، فقال تعالى” ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله” هكذا هى مفارقة عجيبة ليس بينها في الزمن إلا يوم واحد أو ليلة واحد يكون فيها الناس على الخير مقبلين وبعد ذلك مباشرة يكونون عنه نافرين، يكونون في طاعة الله عز وجل ورحمته ورضوانه ثم ينسلخون ويفرون إلى معصيته وسخطه وعقابه واستحقاق نيرانه، إنها وصية يذكرنا بها رمضان فى آخر يوم من أيامه “ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين” واحذر أن تكون مثل بلعم بن باعوراء، فكان لنبى الله موسى عليه السلام صاحب من المقربين إليه، يسمى بلعم بن باعوراء، وهو عالم من علماء بني إسرائيل، وكان مجاب الدعوة لا يسأل الله شئيا إلا أعطاه إياه، بلغ من ثقة موسى فيه أنه قال له يا بلعم، اذهب إلى أهل مدين، فبلغهم رسالات الله، فلما ذهب بلعم ووقف بينهم خطيبا ومرشدا، قال له أهل مدين كم يعطيك موسى من الأجر على تبليغ هذا الكلام؟ فقال بلعم إنما أبلغه ابتغاء مرضاة الله، لا أتقاضى على ذلك أجرا.
فساوموه وجعلوا له مقدارا من الذهب والفضة، وعندئذ فَكر الرجل قليلا، وبعد ذلك عاد إليهم، وترك نبى الله موسى، وانقلب على عقبيه، وانتظره نبى الله موسى ليعود إليه، ولكنه لم يعد إلى موسى، فقد أكلته الدنيا، وباع آخرته بدنياه، وعندئذ قص الله تعالى قصته على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وحذرنا من أن نكون مثله، فبعد أن ذاق حلاوة الإيمان، وآتاه الله آياته، انقلب على عقبيه، واشترى الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة، وانسلخ من آيات الله، كما تنسلخ الحية من جلدها، وعن علقمة قال قلت لعائشة رضى الله عنها “هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يختص شيئا من الأيام؟ قالت لا، بل كان عمله ديمة” رواه البخارى ومسلم، وإن الغيرة على المحارم من سمات المؤمنين، وكلما نقص الإيمان في قلب العبد، نقصت وضعفت غيرته وإذا ذهبت الغيرة بالكلية، صار ديوثا، والديوث هو الذى يرضى الخبث في أهله ولذا استحق هذا الديوث أن يُحرم دخول الجنة، ويقول عليه الصلاة والسلام.
“لا يدخل الجنة ديوث” رواه أحمد والنسائى، ولا ندرى بماذا نفسر خروج النساء سافرات متبرجات في الأسواق والمجمعات التجارية والأماكن العامة، هل يدل هذا على وجود غيرة عند الرجال، أو يدل على عكس ذلك؟ فترى أحيانا امرأة شابة كاشفة لوجهها، متزينة بأَبهى زينة، وقد أخرجت شيئا من شعرها، أو كشفته كله، وربما تعطرت، فتكون في قمة الزينة والفتنة، ويكون معها زوجها إما بسيارته، أو يمشي معها في المجمعات أو الأسواق، وكأنه يقول للشباب انظروا وتمتعوا بالنظر إلى زوجتي وإلى أخواتى، فسبحان الله تصل الدياثة إلى هذا الحد، إن كثيرا من الحيوانات والبهائم تغار على أنثاها من أن يقربها حيوان آخر، وهذا الرجل يرضى بأن يتمتع بالنظر إلى أنثاه كل من مر بذلك المكان، فماذا يقى لك أيها الزوج بعد أن فقدت الغيرة، والمصيبة أن هذا المنظر لا يعد آحادا أو في حكم الشاذ، بل صار منظرا متكررا بالعشرات، ألم يقل نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم.
“أيما امرأة استعطرت، فمرت على القوم ليجدوا ريحها، فهي زانية” رواه أحمد، وقال الإمام على بن أبي طالب رضي الله عنه ألاَ تغارون؟ ألاَ تستحيون؟ فإنه بلغني أن نساءكم يزاحمن العلوج أى الأجانب، رحم الله الخليفةَ الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه ليس الأمر أمر مزاحمة الآن، بل تعدى ذلك بكثير، فأين غيرة المسلم على أهل بيته؟ فيا مَن تسمح لأهل بيتك بالخروج متبرجات، اتقى الله تعالى واحفظ نفسك من الدياثة، واحفظ نساءك من الفتنة والافتنان قبل أن يحل بنا ما حل بغيرنا من المصائب، فكنا قبل مدة نتحدث عن قدوم رمضان، واستبشار المسلمين بفضائله، وعظيم قدره، وضرورة اغتنام نفحاته، وها نحن اليوم نتحدث عن وداعه، وسرعة انصرامه، فهل استجبنا لداعى الخير الذى علمناه رمضان؟ فإنما هى الأعمار تفنى، والأيام يشد بعضها في بعض، فإن كان رمضان دربة على الصيام، فهلا التزمت بصيام التطوع، الذى بين النبي صلى الله عليه وسلم عظيم فضله، وجزيل الجزاء عليه؟
من ذلك صيام ستة من شوال، التي تعتبر بمثابة النفل الذى يجبر النقص الذى قد يحصل في الفريضة فقال النبى صلى الله عليه وسلم “من صام رمضان، ثم أتبعه ستا من شوال، كان كصيام الدهر” رواه مسلم، سواء كانت في أول شوال، أم في آخره، متتابعةً أم متفرقة، وإن كان التتابع أفضل، ومن ذلك صوم الاثنين والخميس، حيث تعرض الأعمال على الله تعالى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” تعرض الأعمال فى كل يوم خميس واثنين، فيغفر الله تعالى فى ذلك اليوم لكل امرئ لا يشرك بالله شيئا، إلا امرأ كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال اتركوا أى بمعنى أخروا، هذين حتى يصطلحا، اتركوا هذين حتى يصطلحا” رواه مسلم، وعن أبي هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال “تعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس، فأحب أن يُعرض عملى وأنا صائم” رواه الترمذى، ومن ذلك صيام الأيام البِيض، التي جعلها الرسول صلى الله عليه وسلم كصيام الدهر، والتي لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدع صيامها فى سفر أو حضر.