الدكرورى يكتب عن وداع رمضان ” الجزء السادس
بقلم: محمـــد الدكـــرورى
ونكمل الجزء السادس مع وداع رمضان، وقد توقفنا عند صيام التطوع ومن ذلك أيضا هو صيام معظم شعبان، ومن ذلك صيام العشر الأوائل من ذى الحجة، التي تعتبر أفضل أيام السنة على الإطلاق، حيث يكون العمل الصالح فيها أحب إلى الله عز وجل، ومن ذلك صيام يوم عرفة لغير الحاج لأنه يكفر صغائر ذنوب سنتين ماضية وقادمة، ومن ذلك صيام يوم عاشوراء لأنه يكفر سنة ماضية، فليس الصيام خاصا برمضان، بل هو تدريب لصيام هذه المناسبات وغيرها، فقال النبى صلى الله عليه وسلم ” أحب الصلاة إلى الله صلاة داود عليه السلام وأحب الصيام إلى الله صيام داود، وكان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه، ويصوم يوما، ويفطر يوما” رواه البخارى ومسلم، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم “ما من عبد يصوم يوما فى سبيل الله، إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفا” رواه البخارى ومسلم، وإن تعودت فى رمضان على البذل والعطاء، وتفطير الصائمين، والتصدق على المحتاجين.
فهلا بقيت على هذا العهد بعد رمضان، فأطعمت الجياع، وكسوت العراة، وواسيت المرضى ويقول النبى صلى الله عليه وسلم “الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد فى سبيل الله، أو القائم الليل، والصائم النهار” رواه البخارى ومسلم، وإذا تعودت فى رمضان قيام الليل، واستمتعت بما شرفك الله به من الوقوف بين يده، فهلا حافظت على هذا الشرف خارج رمضان، فعن سهل بن سعد رضى الله عنهما قال جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال “يا محمد، عش ما شئت فإنك ميت، واعمل ما شئت فإنك مجزى به، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعلم أن شرف المؤمن قيام الليل، وعزة استغناؤه عن الناس” رواه الطبرانى، وإذا تعودت فى رمضان ارتياد المساجد، وحضور الجماعة، فهلا واظبت على الطريقة بعد رمضان، ورسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم يبشرنا ويقول “ما تَوطن رجل مسلم المساجد للصلاة والذكر، إلا تبشبش الله له أى تلقاه ببره وكرمه، كما يتبشبش أهل الغائب بغائبهم إذا قَدم عليهم” رواه ابن ماجه.
فإذا واظبت على الصلاة في الجماعة، جعل الله لك من الحفظ والصيانة والأجر ما لا يظفر به إلا محب لربه، عالم بقدره، فيقول النبى صلى الله عليه وسلم ” مَن صلى البردين، وهما الفجر والعصر، دخل الجنة” متفق عليه، ويقول صلى الله عليه وسلم “مَن صلى الصبح فهو في ذمة الله أى ضمانه وأمانه وحفظه” رواه مسلم، وفي حديث آخر “مَن صلى الصبح فى جماعة، فهو في ذمة الله” ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم “مَن صلى العشاء في جماعة، فكأنما قام نصف الليل، ومَن صلى الصبح فى جماعة، فكأنما صلى الليل كله” رواه مسلم، فهل سألت نفسك ورمضان ولى، هل أنت من المسرورين، أم من المحرومين؟ هل صنت صيامك، وجودت قيامك؟ وقال الحسن البصرى رحمه الله “إن الله جعل رمضان مضمارا لخلقه، يستبقون فيه إلى مرضاته، فسبق قوم ففازوا، وتخلف آخرون فخابوا، فالعجب من اللاعب الضاحك، في اليوم الذى يفوز فيه المحسنون، ويخسر فيه المبطلون” ولا تنسوا أن تغتسلوا وتتطيبوا قبل الخروج لصلاة العيد.
والجهر بالتكبير من غروب شمس ليلة العيد حتى يصعد الإمام المنبر، ويستحب الخروج مشيا، وأن يخرج من طريق، ويرجع من طريق آخر تكثيرا للأجر، ويقول سعيد بن جبير “سنة العيد ثلاث المشي، والاغتسال، والأكل قبل الخروج” ويحسن أن يكون الأكل تمرات وترا، وذلك لما رواه البخارى عن أنس رضى الله عنه قال “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات، ويأكلهن وترا” فإذا وصلت المصلى، فاجلس دون صلاة ركعتين لأنه ليس بمسجد، وأكثروا من الدعاء واجتناب المعاصى، فقال أحد السلف “كل يوم لا يعصى الله فيه فهو عيد” فيا شهر رمضان إن الأعين تذرف، والقلوب ترجف، والأفئدة تخفق، والضمائر تحترق، والأحشاء تتبدد، والأنفس تتحسر، فراق مُر، ورحيل شاق، وغياب مُضن الذى عرف قدرك، واغتنم حلولك، وشرب من ينابيعك، يبكي للذة انقطعت، وشمعة انطفأت، ومتعة تلاشت، ومسرات كان يتمنى أن تطول والذي تشاغل عن لقائك، وقصر فى وصالك.
يتألم لغفلته عنك، وتقصيره معك، وخسارته فيك ولكننا نسأل المولى الأجل أن يعيدك علينا أعواما عديدة، وأزمنة مديدة، وأن يعفو عن التقصير، ويتجاوز عن الزلل، فيا أيها الحبيب الراحل لقد عشنا فيك دقائق جميلة، وساعات بديعة، ومشاعر عجيبة لقد كنا نشعر أننا انتقلنا من الكوكب الأرضى إلى عالم علوى ندى، كنا نشعر بالرحمة تهبط علينا، والسكينة تحفنا، والعناية تحوطنا، والولاية تحرسنا، وكأنها الملائكة تصافحنا في الطرقات، القلوب غير القلوب، والأنفس غير الأنفس، والأخلاق غير الأخلاق، وإن هذا كله مع شدة تقصيرنا معك، وتضييعنا لحقوقك، ومخالفتنا لقوانينك فكيف لو أخلصنا في الحب، وصدقنا في الود، والتزمنا بالعهد؟ واحسرتاه على أوقات ضاعت، وليال مرت، لم تكن في رحاب الحبيب، فماذا جناه النائمون من نومهم؟ والمفرطون من تفريطهم؟ واللاهون من لهوهم؟ واللاعبون من لعبهم؟ فئام هائمة، وأنوف راغمة، وجهود خاسرة، تلك التي لم تتذوق حلاوة الصيام، وروعة القيام، ولذة القرآن.
فيا شهر رمضان لو نضمن لقاءنا بك مرة أخرى لهوّنا على أنفسنا، وطيبنا خواطرنا، وأبردنا حرارة أشواقنا، وعللنا الأنفس بحلاوة اللقاء بعد مرارة الفراق، مَن لم يذق مرارة الفراق لم يدر ما حلاوة التلاقى، لكن الخوف أن يكون وداعنا لك وداعا لا لقاء بعده، فكم رأينا من مُحب لك، متمن للقائك، طامع في وصالك، حال بينه وبينك الموت، ومنعه من لقائك الردى، فإن الموت لا يرحم عشاقك، ولا يراعي خلانك، يخطفهم قبل أن يروك، بل قد ينتشلهم من أحضانك، ويفتك بهم على مائدتك، فيا أيها الصائمون أحسن الله عزاءكم في شهركم، وعظم الله أجركم، وجبر مصيبتكم، وعوضكم خيرا مما مضى لقد كانت لحظات عابرات، وأياما معدودات، فكبروا الله على ما هداكم، واشكروه على ما آتاكم، واحمدوه على ما حباكم، ويا أيها الطائعون المغتنمون المبادرون يا بشرى لكم لقد سافر حبيبكم وهو عنكم راض، ولكم شاهد، وفيكم شافع، وبكم فخور، أيها المقصورن المفرطون المضيعون يا لعظم خسارتكم ويا لكبر مصيبتكم.
فانظروا إلى جيرانكم وإخوانكم وزملائكم الذين اجتهدوا، انظروا إلى سرور نفوسهم، ووضاءة وجوههم، وانشراح صدورهم، وفرحهم بما نالوا ثم انظروا بماذا عُدتم أنتم، وماذا كسبتم؟ ذهب عنهم التعب وبقيت لهم حلاوة الطاعة، وأجر العبادة، وأنتم ذهبت عنكم حلاوة المعصية، وبقيت لكم تبعة الذنب، وجريمة التفريط، وقائمة السيئات، فهم جمعوا الحسنات، وكنزوا الطيبات، وسيقال لكم ولهم ذوقوا ما كنزتم لأنفسكم، ولكن المنادى يناديكم أن الحقوا بالركب، وتشبثوا بالحبل، وسارعوا بالندم، وقدموا الاعتذار، وبادروا بالتوبة، ولا تقنطوا من رحمة الله، فبادروا بالتوبة مع ختام الشهر فإن الأعمال بالخواتيم، وتداركوا أنفسكم طالما أن في العمر بقية، وفي الزمن فسحة، والمعبود كريم، والمقصود رحيم، فبادروا بالتودد للخالق، والتذلل للعظيم، والانطراح على أعتاب الكريم اغسلوا لوثات القلوب بماء الدموع، وحرقة الندم، وزلال التوبة فإن مَن لم يتقطع قلبه في الدنيا على ما فرط حسرة وخوفا تقطع قلبه في الآخرة إذا حقت الحقائق، وظهرت الوثائق، وحضرت الخلائق، وتقطعت العلائق.