الدكرورى يكتب عن وداع رمضان ” الجزء السابع “
إعداد: محمـــد الدكـــرورى
ونكمل الجزء السابع مع وداع رمضان، فإن كل بنى آدم خطاء، ولكن خير الخطائين التوابون وإن الأعمال الجليلة، والمواسم العظيمة، تختم بالاستغفار، والتوبة للقهار، فهو سبحانه المنادى كما جاء فى سورة طه ” وإنى الغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى” وهو سبحانه المنادى “يا عبادى إنكم تخطؤون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعا، فاستغفروني أغفر لكم” رواه مسلم، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم “يا أيها الناس توبوا إلى الله، فإني أتوب في اليوم إليه مائة مرة” رواه مسلم، ويقول أيضا “إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها” رواه مسلم، ولقد كان الناس في رمضان على ثلاثة أقسام، قسم ظالم لنفسه لم يصم شهر رمضان صوما حقيقيا، فلم يحفظ حدوده ولم يتحفظ مما ينبغي له أن يتحفظ , فلم يصم لسانه عن اللغو والبهتان, ولم يصم سمعه عن سماع الباطل والخنا وكل ما يغضب الرحمن, ولم تصم عيناه عن النظر المحرم الغفلان.
ولم تصم بطنه عن أكل الحرام, ولا يداه وقدماه عن الفحش والبهتان, فهذا كان حظه من صومه العطش والجوع وتحصيل الذل والخنوع, فهؤلاء لم يأخذوا من الإسلام إلا اسمه ولا من الإيمان إلا رسمه, فهم قد وقفوا عند مرتبة الإسلام ولم يتجاوزها بعد إلى مرتبة الإيمان، والقسم الثاني قسم مقتصد، صان نفسه عن كل ما يغضب الله وحفظ صومه من اللغو والباطل, كما قال جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه إذا صمت فليصم سمعك وبصرك من الحرام والقبيح، وليكن عليك وقار الصيام ولا تجعل يوم صومك كيوم فطرك، وهؤلاء هم من تجاوزوا مرتبة الإسلام إلى مرتبة الإيمان ولكنهم بعد لم يصلوا إلى مرتبة الإحسان، والقسم الثالث وهم من سبقوا بالخيرات وتنافسوا على تحصيل الحسنات, فهم المحسنون الذي وصلوا إلى مرتبة الإحسان فعبدوا الله حق العبادة وراقبوه حق المراقبة, فهم المتميزون في صومهم وعبادتهم وأخلاقهم, فلم يصوموا كما يصوم الناس بل جعلوا صومهم خالصا لله رب العالمين.
فصانوه من الشوائب وحفظوه من السفاسف والمعايب, فصارت ألسنتهم تلهج بالذكر والدعاء, وقلوبهم يلفها الصفاء والنقاء، فقرأوا القرآن وتدبروا معانيه, وقامت قلوبهم بالليل تصلي لله وتناجيه، فقال الواحدي فمنهم ظالم لنفسه وهو الذي زادت سيئاته على حسناته ومنهم مقتصد وهو الذي استوت حسناته وسيئاته ومنهم سابق بالخيرات وهو الذي رجحت حسناته، وقال السعدي فمنهم ظالم لنغسه بالمعاصي، التي هي دون الكفر ومنهم مقتصد، أى مقتصر على ما يجب عليه، تارك للمحرم، ومنهم سابق بالخيرات أى سارع فيها واجتهد، فسبق غيره، وهو المؤدى للفرائض، المكثر من النوافل، التارك للمحرم والمكروه، فكلهم اصطفاه الله تعالى، لوراثة هذا الكتاب، وإن تفاوتت مراتبهم، وتميزت أحوالهم، فلكل منهم قسط من وراثته، حتى الظالم لنفسه، فإن ما معه من أصل الإيمان، وعلوم الإيمان، وأعمال الإيمان، من وراثة الكتاب، لأن المراد بوراثة الكتاب، وراثة علمه وعمله، ودراسة ألفاظه، واستخراج معانيه.
وعن عبد الرحمن المغافرى أن كعب الأحبار رأى حبر اليهود يبكي فقال له ما يبكيك؟ قال ذكرت بعض الأمور فقال له كعب أنشدك بالله لئن أخبرتك ما أبكاك لتصدقني؟ قال نعم، قال أنشدك بالله هل تجد في كتاب الله المنزل أن موسى نظر في التوراة، فقال رب إني أجد أمة في التوراة خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويؤمنون بالكتاب الأول والكتاب الآخر، ويقاتلون أهل الضلالة حتى يقاتلوا الأعور الدجال، فقال موسى رب أجعلهم أمتي، قال هم أمة أحمد؟ قال الحبر نعم، قال كعب فأنشدك بالله هل تجد في كتاب الله المنزل أن موسى نظر في التوراة، فقال رب إني أجد أمة هم الحمادون رعاة الشمس المحكمون، إذا أرادوا أمرا قال افعله إن شاء الله فاجعلهم أمتي قال هم أمة أحمد؟ قال الحبر نعم، قال كعب فأنشدك بالله هل تجد في كتاب الله المنزل أن موسى نظر فى التوراة، فقال يا رب إني أجد أمة إذا أشرف أحدهم على شرف كبر الله، وإذا هبط واديا حمد الله، الصعيد لهم طهور، والأرض لهم مسجدا.
حيثما كانوا يتطهرون من الجنابة، طهورهم بالصعيد كطهورهم بالماء حيث لا يجدون الماء، غر محجلون من آثار الوضوء فاجعلهم أمتي، قال هم أمة أحمد؟ قال الحبر نعم، قال كعب انشدك بالله هل تجد في كتاب الله المنزل أن موسى نظر في التوراة ، فقال رب إني أجد أمة مرحومة ضعفاء يرثون الكتاب، واصطفيتهم “فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات” ولا أجد أحدا منه إلا مرحوما فاجعلهم أمتي، قال هم أمة أحمد؟ قال الحبر نعم، قال كعب أنشدك بالله هل تجد في كتاب الله المنزل أن موسى نظر في التوراة ، فقال رب إني أجد في التوراة أمة مصاحفهم في صدورهم يلبسون ألوان ثياب أهل الجنة يصفون في صلاتهم كصفوف الملائكة، أصواتهم في مساجدهم كدوي النحل، لا يدخل النار منهم أحد إلا من بري من الحسنات مثل ما بري الحجر من ورق الشجر فاجعلهم أمتي، قال هم أمة أحمد؟ قال الحبر نعم، فلما عجب موسى من الخير الذى أعطاه الله محمدا صلى الله عليه وسلم وأمته قال يا ليتني من أمة أحمد.
فأوحى الله إليه ثلاث آيات يرضيه بهن ” إنى اصطفيتك على الناس برسالاتى وبكلامى فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين” فرضي موسى كل الرضا، فإن من أعظم الجرم وإن من أكبر الخسران أن يعود المرء بعد الغنيمة خاسرا وأن يبدد المكاسب التي يسرها الله عز وجل في هذا الشهر الكريم، وأن يرتد بعد الإقبال مدبرا وبعد المسارعة إلى الخيرات مهاجرا وبعد عمران المساجد بالتلاوات والطاعات معرضا، فإن هذه الأمور لتدل على أن القلوب لم تحيا حياة كاملة بالإيمان ولم تستنر نورها التام بالقرآن وأن النفوس لم تذق حلاوة الطاعة ولا المناجاة وأن الإيمان ما يزال في النفوس ضعيفا وأن التعلق بالله عز وجل لا يزال واهنا، فإن غدا توفى النفوس ما كسبت، و يحصد الزارعون ما زرعوا، فإن أحسنوا أحسنوا لأنفسهم، و إن أساءوا فبئس ما صنعوا، فلا تكونوا كالتى نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا، وقال أهل التفسير بأن المرأة المقصودة في الآية الكريمة هى امرأة عاشت في زمن ما قبل الإسلام وهى فترة الجاهلية.
واسمها رابطة أو رايطة أو ريطة من بني تميم، وكانت امرأة تلقب بالجعراء أو الجعرانة، وإليها ينتسب الموضع المسمى بالجعرانة بين مكة المكرمة والطائف، وهو ميقات للإحرام، وإلى جانب ذلك كانت تسمى بخرقاء مكة، ويضرب بها المثل في الحمق، فما قصة حمقها؟ فلقد كانت هذه المرأة تجتمع كل يوم، هي ومجموعة من الجوارى والعاملات لديها، فتأمرهن بالعمل على غزل ونسج الصوف والشعر ونحوهما، ثم إذا انتصف النهار وانتهين من أداء عملهن في الغزل أمرتهن بنقضه، أى إفساد ما غزلنه وإرجاعه أنكاثا، بمعنى أنقاضا أو خيوطا، وذلك بإعادة تقطيع الغزل إلى قطع صغيرة، ثم تنكث خيوطها المبرومة، فتخلط بالصوف أو الشعر الجديد وتنشب به، ثم تضرب بالمطارق أو ما شابه، على أن يقمن بغزله مجددا في اليوم التالي, وهكذا، تجهد هذه المرأة نفسها وعاملاتها بالعمل ثم تفسده بحمقها وخراقتها، وقال ابن رجب بعض السلف كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم شهر رمضان ثم يدعون الله ستة أشهر أن يتقبله منهم.