الفلسفه بين الحضور والغياب
الفلسفه بين الحضور
والغياب
بقلم / د عصمت نصار
متابعه/ حمدون سيد حمدون
مازال العقل الفلسفي تعييه الثنائيات وتشغله حدود المقابلة بين النقائض؛ الأمر الذي دفعه للتوقف أمام عنوان المسألة المطروحة أي وجود الفلسفة من عدمه في ثقافة ما؟ وهل توجد ثقافة بلا تفلسف؟ وهل مسار حديثنا سوف ينطلق منذ بداية خلق الفلسفة إلى عدمها؟ وإذا سلمنا بوجودها فهل نتسأل عن أطوار بعثها أم إحيائها إلى أسباب انزوائها وموتها؟ وهل للتفلسف مقومات وعوامل تنميه وتطوره أم هو من آليات العقل ويقظة التفكير ووعيه؟
ويتسأل الناقد من جديد هل للفلسفة مفهوم متفق عليه وإذا كان فهل معروف بذاته أم بغيره؟ وهل التفلسف ذاتي أم تحصيلي استيعابي؟ وهل التفلسف شرط وجود المثقف أم لتواجده؟ ويتسأل البعض: هل كل تفكير فلسفة؟ يعترض بعضهم بأن التفكير إنتاج عقلي ومن ثمّ ليس كل ما ينتجه العقل فلسفة, وإذا ما تشكك البعض في هذا الزعم, فيرد أصحابه بأن كل المعارف الإنسانية ذات مسحة فلسفية، ولكنها لا تتوفر فيها خصائص الفلسفة التي تميز بين موضوعاتها ونتائجها مثل الدين والعلم والخرافة؛ فلكل من هذه المعارف سياقات وأنساق لا يمكن وصفها بالفلسفة أو إدراج نتائجها وآثارها ضمن البنية النقدية الفلسفية.
بينما يرد المتفلسف بأن للفلسفة سياقات وأنساق لكل ضرب من ضروب المعارف العقلية, وأبسطها هو المنهج؛ فلا شيء ينتجه العقل إلا وكان له نهج يعبر عن خطاب صاحبه, أو منهج يعصم التفكير من الاضطراب والتناقض والعبث واللغو.
ويستمر المعترضون والمنكرون والمؤيدون في التساجل، ومن ثم يزعم بعضهم أن كل أنماط التفكير فلسفة (أنه ليس كل تفكير وتأمل ينتج عنه تنظير أو شبه تنظير أو تقعيد أو تأسيس يمكن تسميته بالفلسفة؛ لأن مجرد التفكير في موضوع ما ونسبته إلى الفلسفة هو في حد ذاته ترسيم لحدود العقل وتضييق لهامش حرية الانطلاق والتوسع بالنسبة للمعارف، في حين أن واقع الحال الذي عليه، أو أصبحت عليه مختلف المعارف والعلوم اليوم تشي بكون الفلسفة قد ألغت نفسها بنفسها حينما أرادت أن تتكلم في كل شيء، وتنظر لكل شيء، دون اعتبار للاختلافات الجوهرية التي تميز مختلف العلوم والمعارف سواء من حيث المنهج أو من حيث الموضوع).
وعليه؛ لا يمكننا اعتبار أن كل ما ينتجه العقل فلسفة (فقد يقول قائل: إن إلغاء الفلسفة يعني إلغاءً للعقل، فهل كل ما ينتج عن العقل هو فلسفة؟ فإذا كان الأمر كذلك، فسوف نعود بكل المعارف المتعدّدة اليوم إلى الزمن الذي كانت فيه “الفلسفة” تستحوذ على كل أنماط التفكير، في حين أن العقل البشري- في إطار أولياته وآلياته المنطقية، أو ما يطلق عليه بالأسس الأوليّة للعقل التي قال بها كانط، (ويمكن لأي إنسان أن يستشعرها بداخله)- لا يمكنه أن يتطور داخل بنية مغلقة واستحواذيه تسمى “الفلسفة”، فالعقل بذاته يستعمل من بين آلياته المتعددة، آلية التصنيف، لأنه في إطار تأمله في الموضوعات لا يمكنه إلا تصنيف ماهية الموضوع المفكر فيه ضمن معايير مختلفة ومحددة وذات أسس مختلفة:
وهكذا أمكننا التحدث عن علوم متعددة أدى تطور العقل البشري إلى تصنيفها وتمييزها عن باقي المعارف المختلفة، فظهرت علوم ومعارف شتى… وكيف نقبل أن يكون كل تفكير في هذه العلوم ولو كان تنظيراً مجرداً، أو تقعيداً لأسس نظرية لأي علم كان، كيف نقبل بعد هذا أن نضمّه إلى حقل التفلسف؟
إنّ التفكير في أي حقل معرفي كان، لا يمكن أن ندعوه فلسفة، طالما أنه أصبح لكل نمط من التفكير حقل مقارباتي خاص، ينهل مناهجه وأدواته من نفس الحقل الذي ينشط فيه. ومع ذلك، فلا بدّ من التأكيد على كون الفلسفة لم تخرج إلا من رحم العلم والمعرفة، ومن رحم عملية التفكير عامة، ولكن هذا لا يعطيها الحق في الهيمنة على كل المعرفة وجعلها أم العلوم، وبما أن كل العلوم ترتكز على أسس نظريّة تفرض نوعية المنهج الإجرائي، فإنّ البعض يصر على إلحاق عملية “التنظير” بالفلسفة، وهذا خطأ تصنيفي، يقع فيه من يريدون بأية وسيلة الإبقاء على هيمنة الفلسفة على كل مناحي التفكير…
ومن الخطأ تعريف الفلسفة في الكتابات الأكاديمية بأنها تقَدَّمُ للطالب باعتبارها بحث في منهج المعرفة التجريبية والعقلية، وبحث في المجتمع والدولة، وبحث في النفس الإنسانيّة، وبحث في الطبيعة، وبحث في الأخلاق، وبحث في البنيّة، وبحث حتى في أسس العلم. غير أن الواقع كان يفرض أن تقدّم الفلسفة للطالب على أنها فقط نمط من أنماط التفكير في العلم، العلم الذي يستطيع تجاوز حدوده المنهجية والمعرفيّة الصارمة إلى حدود ما وراء العلم).
وينزع التفكيكيون المعاصرون إلى اعتبار تلك الدفوع وذلك الإنكار بأنه مجرد رأي لا يخلو من تعصب للنظريات الوضعيّة التي تصادر كل أشكال التفكير بما في ذلك المنهج إلى العلم. فعدو العلم وجريانه في ضروب المعرفة يحتاج دوماً لمن يقرأ أبعاد خطابه على الإنسانية محاولاً تارة تقويمه وأخرى تبرير ما يفعل وثالثة الإجابة عن ما يعتقد أنه مجهول ولا علة له. ولا يقوم بهذا الدور سوى الفلسفة, ناهيك عن تهيئت الأذهان بقبول اعتقادات العلم وقوانينه التي كذبتها الاكتشافات والأبحاث اللاحقة. فالفلسفة دوماً سوف تظل دعوة للتفسير والتبرير، ومحرض للنقد والتغيير، ووعاء كلي شامل لتصنيف المعارف الإنسانية.
ويتسأل الوجوديون المعاصرون: هل هناك حدود للفلسفة تمنعها من إعمال النقد فيما عساه أن يكون ثوابت في ثقافة ما؟ وهل هناك موانع للتفلسف تعصمه من الإجتراء والتطرف والمجون والثورة والعنف؟ ويتسأل أنصار الفلسفة: هل استطاع العلم الإجابة عن كل ما يلفظه العقل البشري من تساؤلات؟ أليس هناك الكثير من المجالات المجهولة أمام العلم التي تعرب معارفها عن عجزها وتفسيرها كواقعات؟ ألم تقدّم الفلسفة عشرات الأفكار التي كان يدرجها العقل ضمن أوهام الخرافة. وهل الخطاب الفلسفي هو ذلك الرأي المحمول في كلمات وإشارات معبرة عن وجهة نظر في بناء سياقي متصاعد وبنية نسقية مترابطة يحمل مضمونها مقصداً شاغراً من العنت والاستبداد وساعياً للتواصل مع الأغيار في متنفس من الحريّة؛ لتحقيق أكبر قدر من المصالح المتبادلة والحقائق الضرورية والسعادة للنفس العاقلة والأذواق الراقيّة واللذائذ الحسية الفاضلة.
وهل يمكن للدين أو العلم أن يحلا محل الفلسفة في الثقافات التي غاب عنها الحوار واستبد من مقدراتها الفاشلون والراديكاليون والشيفونيون أو الإباحيون والفوضويون؟. وهل للخطاب الفلسفي مؤهلات تقدّم أصحابه وتدعم رسالتهم وتعمل على إفلاح مقاصدهم, وإذا كان للخطاب الفلسفي إخفاقات وضحايا فما هي أسبابها وعللها الذاتية وتحدياتها الخارجية؟ هل يمكننا اعتبار التصارع الفلسفي مع الرأي العام القائد تارة أو مع الرأي العام التابع تارة أخرى ضرباً من ضروب التفلسف؟ هل يجوز القول أن الحقائق الفلسفيّة والأدلة العقليّة يجب أن تنزوي أو تغيب أو تتخفى عن مسرح الحياة الثقافية أحياناً أم دائماً باسم سذاجة المتلقي أو عدم أدراكه لخطر مجهول؟ وهل المتفلسف هو ذلك المتمرد دوماً على الواقع أم هو الذكي الذي يحسن إخفاء أفراخ النسور والحمائم عن أعين الأفاعي الضارية والذئاب الجائعة؟ وهل كل من يحسن الخطابة ويحترف الكلام يستطيع أن يرتدي عباءة سقراط أم قبعة برتاجوراس؟ وهل ندرس الفلسفة في مدارسنا ومعاهدنا وفق مقصدها أم سير على سُنة المقرّرات التي ورثنها في سنوات غربة المتفلسفة وغيبة الأيقاظ الأصحاء؟
الحق أنّ معظم هذه التساؤلات جاءت وليدة حوار القارئ مع الكاتب، وهو يحتاج بطبيعة الحال إلى مزيد من التساؤلات لأثراء الحوار وإلى الكثير من الإجابات لتوضيح ما غمض وتبيان ما ألتبس. وجل ذلك سوف نقف عليه خلال رحلة رجوع التفلسف إلى قائمة الحضور في الثقافة المصرية في العصر الحديث مع توقفنا بعض الشيء على معوقات غيابه والأضرار التي أعيته من جراء عنف قيوده ( وللحديث بقيه ) .