رئيس اتحاد الوطن العربى الدولى يتحدث عن فقه التربية الدينية

رئيس اتحاد الوطن العربى الدولى يتحدث عن فقه التربية الدينية
بقلم \ المفكر العربى الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربي الدولي
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
في ميدان التربية والتعليم مَثَل صارخٌ لفلسفة الترميم أو الترقيم الإصلاحي، ومِثله عشرات بل مئات من الأمثلة في شتى الميادين السياسية والاجتماعية، وأعني به الادِّعاء القائل بأن “التربية الدينية” مادة أساسية في كلِّ مراحل التعليم، ولنناقِشْ هذا الادعاء ابتداءً من التفسير اللغوي، وانتهاءً بالواقع الذي تعيشُه هذه المادة التربوية في مدارسِنا.
إن كلمة “أساسية” منسوبة للأساس، وهذا يعني بالمفهوم اللغوي أنها تدخل في “أصل البناء التعليمي” بكل المراحل التعليمية، وأنها تمثل جزءًا أصيلاً في كِيانه، مثل: الطبيعة، والكيمياء، والرياضيات، واللغة العربية؛ أي: المواد التي يجب أن يحصل الطالبُ فيها على نسبة خمسين في المائة من الدرجة الكلية أو ما يقارب هذه النسبةَ حتى يُعتَبَر ناجحًا، كما أن درجةَ كل مادة من هذه المواد الأساسية تمثل جزءًا من المجموع الكلي لدرجات الطالب.
وهذا يعني – بمفهوم المخالفة – أن مادةَ التربية الدينية ليست من المواد الفرعية أو الإضافية؛ كالتربية الرياضية، ومواد المستوى الخاص.
فإذا سألنا عن “الموقع الحقيقي” لمادة التربية الدينية بين هذينِ النوعين من المواد الدراسية، وصَلْنا إلى نتيجة غريبة تدعو للأسف، وهي أنها مادةٌ ليس لها من القيمة الفعلية – على أساسيتها المُدَّعاة – ما للموادِّ الإضافية؛ فهي مادةُ رسوب ونجاح – هكذا يقولون – والطالب لا يُعَد ناجحًا في هذه المادة إلا اذا حصل على أربعين في المائة – على الأقل – من الدرجةِ الكلية، ولكن درجاتها لا تضاف إلى مجموعِ درجات الطالب لا في سنوات النقل، ولا في الشهادات العامة!
وهي لا تعامَل معاملة مادة “التربية الفنية” التي تضاف إلى مجموع الطالب، بل لا تعامَل معاملة مواد “المستوى الخاص”، وهي مواد “تحسين المجموع”، يختار طالب الثانوية العامة واحدة من هذه المواد – إذا أراد – وتضاف درجاتها إلى مجموعه الكلِّي إذا حصَل فيها على خمسين في المائة على الأقل.
ثم إن نصيب “التربية الدينية” في خطة الدراسة – بالمرحلة الثانوية – حصتانِ في الأسبوع، وهما غيرُ كافيتين إذا نظرنا إلى هذه المادةِ نظرة منصِفة من جانبيها: التربوي السلوكي، والعِلمي المعرفي.
هذا إضافة إلى ما يحدث أحيانًا في أواخر العام الدراسي من تخفيض الخطة في بعض المدارس مع الجدول الصيفي لتصبح الحصتان حصة واحدة.
وأخيرًا، لا تفوتني الإشارة هنا إلى التساهل المُفرِط في تقدير درجات “التربية الدينية” في الشَّهادات العامة بصفة خاصة؛ فقد أصبح من البديهيات المسلَّم بها أن الطالب من حقِّه “أن ينجح” في هذه المادة ما دام في ورقة إجابته سطور محبَّرة، بصرفِ النظر عن طبيعة المكتوب، الذي لا يعدو غالبًا عباراتٍ إنشائية لا يكاد يربطها بالدِّين أوهى رباطٍ.
وترتَّب على كل أولئك استهانةٌ صارخة من الطلاب بمادة التربية الدينية؛ فهم لا يحفظون الآيات القرآنية المقرَّرة، بل إن الغالبية العظمى من الطلاب لا يفتَحون كتاب التربية الدينية إلا ليلة الامتحان، يُلقون على صفحاته نظرات خاطفة، وينامون مِلء جفونهم؛ لأنهم يدركون أن “النجاح في الدين” مضمون.
ولا أعدو الحقيقة إذا قلتُ: إن كثيرين من الذين يقُومون بتدريس التربية الدينية لا يقلون استهانةً بهذه المادة المطلوبة عن طلابهم.
• فليس في مدارسنا المدرس المؤهل ليتفرغ تفرغًا كاملاً لتدريس مادة التربية الدينية بفروعها المختلفة.
• وليس وراء تدريس هذه المادة حافزٌ مادي من دروس خصوصية، أو مجموعات دراسية، توفِّر للمدرس دخلاً إضافيًّا؛ مما يدفع المدرِّسين إلى التهرُّب منها.
• وطبيعة المنهج والتخطيط المتميع غير الجاد تدفع مدرِّسي اللغة العربية إلى الجَور على حصتي التربية الدينية أو حصتها لتدريس فرعٍ من فروع العربية إذا ما ضاق وقتها عن استيعاب “الكم” المطلوب منها، بل إن مدرسي المواد الأخرى – التجريبي منها والإنساني – يقومون في أيام الضيق بمِثل هذا “الجَور”، ولكن بطريقة “التفاهم الودي” مع السيد مدرس اللغة العربية.
نتيجة مؤسفة، وتناقض غريب، وخداع للنفس والحقيقة، ومع ذلك يصرُّ المسؤولون على أن التربية الدينية مادة أساسية في كلِّ مراحل التعليم.
وهناك لون آخر من التناقض أشدُّ وأعتى: الطالب يتلقَّى في كل سنوات الدراسة أجزاءً من القرآن والسنَّة والعبادات والقِيَم الخُلقية وسِيَر المُثل العليا من الشخصيات الإسلامية، وحينما يغادر المدرسة إلى الشارع يرى بعينيه ويسمع بأذنيه كلَّ ما يناقض ما تلقَّى؛ ففي الكتاب المدرسي: التحشُّم في المظهر والملبس واجب، ولكنه يرى في الشارع، وفي السينما، وعلى شاشة التلفاز ما يَنْدَى له الجبين.
الخمر حرام، ولكنه يرى الدولة تبيح الخمر بيعًا وشراءً وشُربًا.
الربا حرام، ولكنه يرى نظام البنوك يعتمد اعتمادًا أساسيًّا على الفائدة الرِّبوية.
عوامل الهدم أقوى بكثير وأكثر بكثير من عوامل البناء، والنتيجة الطبيعية لهذا التناقض الصارخ بين المعرفة والواقع، بين المدروس والمعروض، أن يخرجَ الشبابُ إلى معترك الحياة وفي أعماقه جذورٌ مِن الحيرة والشكِّ والصِّراع الضاري بين الاستسلام لِما هو كائن – وهنا تكون السلبية والخنوع والضياع – وبين إنكاره والتمرد عليه، فيصطدم بعقبات ومعوقات يقف القانون في صفِّ أغلبها، وهنا ينشأ صراع من نوع جديد، قد تتحول حماسةُ الشباب فيه إلى عنف وتطرُّف.
والحل؟! تقول التجارب المُرَّة التي مرت بها الأمة الإسلامية في القرن العشرين بصفة خاصة: لا حلَّ إلا في “العودة”؛ العودة إلى المنبع الصافي النبيل، منبع الدِّين الذي أكرَم الله به هذه الأمة فجعَلها خيرَ أمة أُخرجت للناس؛ ما أمَرتْ بالمعروف، ونَهَتْ عن المنكَر، وآمَنَتْ بالله.
نعم، عودة إلى هذا المنبع الكريم بعزمة المؤمنين وصِدْق المتقين، والطريق إليه واضحٌ لا يحتاج إلى لوائح وبرامج بقدر ما يحتاج إلى النوايا الصادقة، والتنفيذ الأمين؛ فالبرنامج – كما يقول كاريل – قد يَخنق التجربةَ الحية خلف دِرع صلبة، إنه سيمنع انبثاق غير المتنبأ به، ويحبس المستقبل داخل حدودِ عقلنا[1].
والعودة إلى هذا المنبع الكريم لن تكلفَنا مشاقَّ، ولن تجشمنا آلامًا ومعاناة؛ لأنها أخذ بيد الإنسان إلى ما يتفق مع “فطرتِه الإنسانية” بعد أن فقَد سعادته، بل آدميَّتَه، حين وقع فريسة للأيديولوجيات الوضعية، وأدار ظهرَه لميراثه الكريم النبيل.
﴿ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ﴾ [الرعد: 17].
________________________________________
[1] الكسيس كاريل: الإنسان ذلك المجهول 359.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *