نسائم الإيمان ومع شيخ الإسلام إبن سيرين
بقلم / محمــــد الدكـــــرورى
هو أبو بكر محمد بن سيرين الإمام وشيخ الإسلام، أبو بكر الأنصاري، الأنسي، البصري، مولى أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهو التابعي الكبير والإمام القدير في التفسير، والحديث والفقه وتعبير الرؤيا، والمقدم في الزهد والورع وبر الوالدين .
وكان قد سمع عن أبا هريرة وابن عباس رضى الله عنهم أجمعين ، وكثيرا من الصحابة وكان محدثا فقيها وإماما غزير العلم، وعلامة في تفسير الأحلام، رأسا في الورع ذا دعابة، لا يرى الرواية بالمعنى، واشتهر ابن سيرين بالورع وكان عالما بارعا بتأويل الرؤى.
وكان أبوه من سبي جرجرايا ، وتملكه أنس بن مالك رضي الله عنه، ثم كاتبه على ألوف من المال، فوفاه وعجل له مال الكتابة قبل حلوله، فتمنع أنس من أخذه لما رأى سيرين قد كثر ماله من التجارة.
وأمل أن يرثه، فحاكمه إلى عمر رضي الله عنه، فألزمه تعجيل المؤجل، وقد ولد محمد بن سيرين في خلافة عثمان بن عفان ، وكان أبوه سيرين مملوكا لأنس بن مالك الصحابي، وكان من نصيبه بعد معركة عين التمر وهي بلدة غربي الكوفة افتتحها خالد بن الوليد في خلافة أبي بكر الصديق، فأعتقه أنس.
وقال أنس بن سيرين: ولد أخي محمد لسنتين بقيتا من خلافة عمر بن الخطاب وأمه اسمها صفية، وكانت أمة لأبي بكر الصديق فأعتقها أيضا، وعرف أبوه وأمه بالصلاح وحُسن السيرة ، وقال أنس بن سيرين: وُلد أخي محمد لسنتين بقيتا من خلافة عمر، وولدت بعده بسنة قابلة ، وقيل أن محمد بن سيرين كان يغتسل كل يوم ، وكان مشهورا بالوسواس .
وقيل أنه اذا إذا توضأ فغسل رجليه بلغ عضلة ساقيه ، وإنه كان نقش خاتمه كنيته “أبو بكر”، وكان يتختم في الشمال، وكان ابن سيرين يلبس شال أو وشاح يوضع على الكتف، وكان ويلبس كساء أبيض في الشتاء، وعمامة بيضاء وفروة، وقال سليمان بن المغيرة: رأيت ابن سيرين يلبس الثياب الثمينة والطيالس وهى الشال والوشاح والعمائم.
وفى تعفف ابن سيرين عن الحرام، قيل أنه ترك ابن سيرين ربح أربعين ألفًا في شيءٍ (شك) داخله ما يختلف فيه أحد من العلماء ، وفى تواضع ابن سيرين ، قيل أنه جاء رجل إلى ابن سيرين فقال: رأيت كأن حمامة التقمت لؤلؤة، فخرجت منها أعظم ما كانت، ورأيت حمامةً أخرى التقمت لؤلؤة فخرجت أصغر مما دخلت، ورأيت أخرى التقمت لؤلؤة فخرجت كما دخلت.
فقال ابن سيرين: أما الأولى فذاك الحسن، يسمع الحديث فيجوده بمنطقه، ويصل فيه من مواعظه ، وأما التي صغرت فأنا، أسمع الحديث فأسقط منه، وأما التي خرجت كما دخلت فقتادة، فهو أحفظ الناس.
وفى بر ابن سيرين بأمه ،قيل عنه أنه ما رُئِي يكلّم أمه قط وهو يتضرع لها، وقال هشام بن حسان: حدثتني حفصة بنت سيرين قالت: كانت والدة محمد حجازية، وكان يعجبها الصبغ، وكان محمد إذا اشترى لها ثوبا اشترى ألين ما يجد، فإذا كان عيد صبغ لها ثيابا، وما رأيته رافعا صوته عليها، فكان إذا كلمها كالمصغي إليها.
وروي عنه أيضا أنه إذا كان عند أمه لو رآه رجل لا يعرفه ظن أن به مرضا من خفض كلامه عندها ، وقيل عن ورع ابن سيرين وثناء الأئمة عليه ، من سره أن ينظر إلى أورع أهل زمانه، فلينظر إلى محمد بن سيرين، فوالله ما أدركنا من هو أورع منه ، وقال عنه مورقا العجلي، يقول: ما رأيت رجلا أفقه في ورعه، ولا أورع في فقهه، من محمد ابن سيرين.
وقال حماد بن زيد، عن عثمان البتي، قال: “لم يكن بالبصرة أحد أعلم بالقضاء من ابن سيرين ، وكان ابن سيرين إذا سُئل عن الحلال والحرام تغير لونه حتى تقول: كأنه ليس بالذي كان ، وقيل أنه اغتم ابن سيرين مرة فقيل له يا أبا بكر ما هذا الغم؟ فقال: هذا الغم بذنب أصبته منذ أربعين سنة .
واشتهر محمد بن سيرين وذاع صيته وعلت شهرته في البلاد وعُرف بالعلم والورع وقد كانت له مواقف مشهورة مع ولاة بني أمية وصدع فيها بكلمة الحق وأخلص النصح لله ولرسوله، ومنها أنه سأله مرة عمر بن هبيرة والي بني أمية على العراق: كيف تركت أهل مصرك يا أبا بكر ، وهى كنية ابن سيرين؟
فقال محمد بن سيرين: تركتهم والظلم فيهم فاش وأنت عنهم لاه، فغمزه ابن أخيه بمنكبه، فالتفت إليه قائلا: إنك لست الذي تُسأل عنهم وإنما أنا الذي أسأل وإنها لشهادة ، ومن يكتمها فإنه آثم قلبه ، فأجزل ابن هبيرة له العطاء فلم يقبل، فعاتبه ابن أخيه قائلا: ما يمنعك أن تقبل هبة الأمير؟
فقال: إنما أعطاني لخير ظنه بي، فإن كنت من أهل الخير كما ظن، فما ينبغي لي أن أقبل، وإن لم أكن كما ظن، فأحرى بي ألا استبيح قبول ذلك ،ويقال أنه كانت له تجارة وله بيع وشراء في السوق فإذا رجع إلى بيته بالليل أخذ في القيام يتلو القرآن ويبكي.
وكان في تجارته ورعا لدرجة أنه ذات مرة اشترى زيتا بأربعين ألفا مؤجلة، فلما فتح أحد زقاق الزيت وجد فيه فأرا ميتا متفسخا فقال في نفسه: إن الزيت كله كان في المعصرة في مكان واحد وإن النجاسة ليست خاصة بهذا الزيت دون سواه، وإن رددته للبائع بالعيب فربما باعه للناس، فأراق الزيت كله.
وروي عن ابن سيرين أنه قال: إني لأعرف الذنب الذي حمل عليّ به الدّين ما هو، قلت لرجل من أربعين سنة: يا مُفلس ، وقيل أنه لم يكن يعرض لمحمد أمران في ذمته إلا أخذ بأوثقهما ، وقال هشام: “ما رأيت أحدًا عند السلطان أصلب من ابن سيرين.
وعن عفة ابن سيرين ،قيل أنه كان لا يطعم عند كل أحد، وكان إذا دُعي أجاب ولم يطعم، وكان إذا دُعي إلى وليمة يدخل في منزله فيقول: اسقوني شربة سويق، فقيل له في ذلك، فقال: أكره أن أحمل حدة جوعي على طعام الناس.
وكان قد سمع ابن سيرين رجلا يسبّ الحجاج بن يوسف فأقبل عليه، فقال: ” مه أيها الرجل، فإنك لو قد وافيت الآخرة كان أصغر ذنب عملته قط أعظم عليك من أعظم ذنب عمله الحجاج، واعلم أن الله تعالى حكم عدل، إن أخذ من الحجاج لِمن ظلمه فسوف يأخذ للحجاج ممن ظلمه، فلا تشغلن نفسك بسبّ أحد.
ولقد كان لابن سيرين سبعة أوراد يقرؤها بالليل فإذا فاته منها شيء قرأه من النهار، وكان يصوم يوما ويفطر يوما وعن بشر بن عمر، قال: حدثتني أم عباد امرأة هشام بن حسان، قالت: كنا نزولا مع محمد بن سيرين في داره، فكنا نسمع بكاءه بالليل وضحكه بالنهار.
وكان رحمه الله إذا مر في السوق فجعل لا يمر بقوم إلا يُذكرهم أن يسبحوا ويذكروا الله عز وجل ، وروي أنه رحمه الله ما كان يدخل السوق نصف النهار إلا ويكبر ويسبح ويذكر الله تعالى، فقال له رجل: يا أبا بكر في هذه الساعة؟ قال: إنها ساعة غفلة.
وقد كان ابن سيرين رحمه الله يتمثل الشعر، ويذكر الشيء ويضحك، حتى إذا جاء الحديث من السنة كَلح أي أفرط في عبوسه، وانضم َّبعضه إلى بعض ،وكان يعرف عنه أنه صاحب ضحك ومزاح، فكان يضحك حتى يستلقي.
وجاء عن ابن سيرين في التعبير عجائب يطول الكتاب بذكرها، وكان له في ذلك تأييد إلهي ، ومما ذكره عنه الإمام الذهبي قال: عن عبد الله بن مسلم المزوي قال: كنت أجالس ابن سيرين فتركته وجالست بعض أهل البدع ، فرأيت كأني مع قوم يحملون جنازة النبي صلى الله عليه وسلم فأتيت ابن سيرين فذكرته له، فقال: مالك جالست أقواما يريدون أن يدفنوا ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم.
وفى تفسير الرؤى والأحلام وغرائب أخباره ومن أغرب ما نقل عنه في ذلك أنه قال: من رأى ربه في المنام دخل الجنة ، وقال رجل لابن سيرين: رأيت كأني أحرث أرضا لا تُنبت، قال: أنت تعزل عن امرأتك ، وقال له آخر: رأيت كأني أطير بين السماء والأرض، قال: أنت رجل تُكثر المني.
وأتاه رجل فقال: رأيت كأني ألعق عسلا من جام من جوهر، قال: اتَّق الله وعاود القرآن فإنك قرأته ثم نسيته ، ورأى رجل في المنام كأن في حجره صبيا يصيح، فقصها عليه، فقال: اتق الله ولا تضرب بالعود ، وأتاه رجل فقال: رأيت في المنام كأني أشرب من بلبلة لها شِعبان، فوجدت أحدهما عذبا والآخر ملحا، فقال: اتق الله، لك امرأة وأنت تُخالف إلى أختها.
وقال رجل: رأيت كأني أبول دما، قال: تأتي امرأتك وهي حائض؟ قال: نعم، قال: اتق الله ولا تعد ، وقيل أنه رأى ابن سيرين كأن الجوزاء تقدمت الثريا فأخذ في وصيته وقال: مات الحسن وأموت بعده، وهو أشرف مني .
وقص رجل على ابن سيرين فقال: رأيت كأن بيدي قدحا من زجاج فيه ماء، فانكسر القدح وبقي الماء ، فقال له: اتق الله: فإنك لم تر شيئا ، فقال: سبحان الله ، قال ابن سيرين: فمن كذب فما علي: ستلدُ امرأتك وتموت، ويبقى ولدها ، فلما خرج الرجل قال: والله ما رأيت شيئا ، فما لبث أن وُلد له وماتت امرأته .
وكانت وصية محمد بن سيرين لأهله وبنيه: أن يتقوا الله ويصلحوا ذات بينهم وأن يطيعوا الله ورسوله إن كانوا مؤمنين وأوصاهم بما أوصى به ، وأوصاهم ألا يدعوا أن يكونوا إخوان الأنصار ومواليهم في الدين، فإن العفاف والصدق خير وأبقى وأكرم من الزنى والكذب ، ولقد توفي محمد بن سيرين بعد أن عٌمر حتى بلغ السابعة والسبعين عاما ، ودفن في البصرة ويقع ضريحه حاليا في مبنى مرقد الحسن البصري .