نسائم الإيمان ومع الخليفه عبد الملك بن مروان ( الجزء الأول )
إعداد / محمــــــد الدكـــــرورى
عبد الملك بن مروان هو أبو الوليد عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية القرشي، وقد ولد عبد الملك عام السادس والعشرين من الهجرة وهو خامس خلفاء الأمويين والمؤسس الثاني لهذه الدولة، وقد كان عبد الملك بن مروان عالما في شؤون الدين فقيها من فقهاء المدينة المنورة، ويقول الأعمش أنه كان فقهاء المدينة أربعة وهم سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وقبيصة بن ذؤيب، وعبد الملك بن مروان، وفي عام خمسه وستين من الهجره، قد استلم عبد الملك خلافة المسلمين بعد وفاة أبيه مروان بن الحكم، وكان استلامه في فترة خلافات وفتن واضطرابات وانقسامات.
ولكن عبد الملك تمكن من توطيد أركان الدولة وضبط كل الثورات والحركات التي قامت في عهده، والدولة الأموية هي دولة بني أمية التي حكمت بلاد المسلمين بعد الخلافة الراشدة مباشرة، وهي أولى السلالات الحاكمة في بلاد المسلمين، وهي واحدة من أكبر الدولة الإسلامية في التاريخ، وقد حكم الأمويون المسلمين من سنة واحد وأربعين للهجرة حتَّى سنة مائه واثنين وثلاثين للهجرة، واتخذوا من دمشق عاصمة لدولتهم، وكان أول خلفاء بني أمية ومؤسس هذه الخلافة معاوية بن أبي سفيان، وقد بلغت الدولة الأموية أقصى اتساع لها في تاريخها في عهد الخليفة هشام بن عبد الملك.
حيث امتدت حدود هذه الدولة من الصين في الشرق إلى فرنسا في الغرب، وقد تسلم عبد الملك بن مروان بن الحكم، حكم الخلافة الإسلامية بعهد من أبيه وذلك في عام خمسه وستين من الهجره، وقيل أنه تسلمها والدولة تعصف بها رياح الفتن والاضطرابات والانقسامات، فعبد الله بن الزبير رضى الله عنه، كان يسيطر على الحجاز والعراق ومصر، وعبد الملك لا يملك من أمره إلا بلاد الشام، ولذلك بدأ في توحيد الدولة تحت إمرته، فكانت أولى المناطق التي أراد أن يستعيد سيطرته عليها هى العراق ثم الحجاز، وقد بعث عبد الملك إلى عبيد الله بن زياد يقرُّه على ما ولاّه عليه أبوه مروان في العراق.
وتقدم ابن زياد نحو العراق وهدفه إجلاء ولاة ابن الزبير، ولكنه اضطر إلى أن يغير خطته، فقد ظهر في الميدان أعداء جدد لم يكونوا في حسبان ابن زياد وهم التوابون، والتوابون هم مجموعة من الشيعة وكان كثيرون منهم ممن كتبوا إلى الحسين بن علي وهو في مكة بعد موت معاوية ليسير إليهم في الكوفة، فلما سار إليهم خذلوه وتخلوا عن نصرته، وأسلموه إلى المصير المؤلم الذي إليه، ولكن بعد استشهاده هزتهم الفاجعة، وعضهم الندم على تقصيرهم نحوه، فلم يجدوا طريقة يكفرون بها عن هذا التقصير الكبير، ويتوبون إلى الله بها من هذا الذنب العظيم سوى الثأر للحسين بقتل قتلته، فسُمُّوا بذلك التوابين.
وتزعمهم سليمان بن صرد الخزاعي، وسموه: أمير التوابين، وقد عَلم التوّابون بقدوم ابن زياد إلى العراق، فرأوا الخروج لقتاله وقتل ابن زياد أخذا بثأر الحسين، وكان عددهم في بادئ الأمر ستة عشر ألفا، فلما جاء وقت العمل الجاد نكصوا وتقاعسوا حتى وصل عددهم إلى أربعة آلاف، وحتى الآلاف الأربعة الذين تجمعوا حول زعيم التوابين سليمان بن صرد تخلَى عنه منهم ألف وبقي معه ثلاثة آلاف فقط، أما جيش الشام فكان عدده ستين ألفا عليهم عبيد الله بن زياد أرسله مروان بن الحكم ليعيد العراق إلى سلطان الأمويين بعد أن بسط حكمه على الشام، فالتقى بالتوابين في عين الوردة من أرض الجزيرة.
ودارت معركة غير متكافئة قُتل فيها معظم التوابين وزعيمهم سليمان بن صرد، وكان ذلك في ربيع الآخر سنة خمسه وستين من الهجره، وفرَّ الباقون عائدين إلى الكوفة لينضموا إلى المختار الثقفي الذي انفرد بزعامة الشيعة، فقويت حركته وكثر أتباعه، ثم ازداد مركزه قوة بانضمام إبراهيم بن الأشتر النخعي إليه وهو من زعماء الكوفة، فثار على عبد الله بن مطيع العدوي أمير الكوفة من قِبَلِ عبد الله بن الزبير فأخرجه منها، وأحكم سيطرته عليها، ولكي يثبت صحة دعواه في المطالبة بدم الحسين تتبع قتلته، فقتل معظمهم في الكوفة، ثم أعد جيشا جعل على قيادته إبراهيم بن الأشتر، وأرسله إلى قتال عبيد الله بن زياد.
فالتقى به عند نهر الخازر بالقرب من الموصل، وحلَّت الهزيمة بجيش ابن زياد الذي خرَّ صريعا في ميدان المعركة سنة سبعه وستين من الهجره، وقد تعاظم نفوذ المختار بعد انتصاره على ابن زياد، وسيطر على شمال العراق والجزيرة وأخذ يولي العمال من قبله على الولايات ويجبي الخراج، وانضمَ إليه عدد كبير من الموالي لبغضهم لبني أمية من ناحية، ولأنه أغدق عليهم الأموال من ناحية ثانية، وبدا كما لو أنه أقام دولة خاصة به في العراق، بين دولتي ابن الزبير في الحجاز، وعبد الملك بن مروان في الشام، ولكنه لم ينعم طويلا بهذه الدولة، وكان المتوقع أن تكون نهاية المختار على يد عبد الملك بن مروان.
الذي وتره بقتل ابن زياد أبرز أعوانه، ولكن عبد الملك كان سياسيًا حكيما، وقائدا محنكا، فقد ترك لابن الزبير مهمة القضاء على المختار، لأن عبد الملك كان يعلم أن ابن الزبير لا بد أن يتحرك للقضاء عليه، فهو لا يسمح لنفوذ المختار أن يتسع ويهدد دولته، فلذلك آثر عبد الملك بن مروان الانتظار، لأن نتيجة المواجهة ستكون حتما في صالحه، فسوف يقضي أحدهما على صاحبه ومن يبقى تكون قوته قد ضعفت فيسهل القضاء عليه، وبالفعل حدث ما كان توقعه عبد الملك بن مروان، فالمختار لم يكتفِ بانتصاره على جيش عبد الملك وبَسط نفوذه على شمال العراق والجزيرة، بل أخذ يُعد نفسه للسير إلى البصرة.
وذلك لانتزاعها من مصعب بن الزبير الذي أصبح واليا عليها من قبل أخيه عبد الله بن الزبير، فسار مصعب بنفسه إلى المختار قبل أن يُعاجله في البصرة، والتقى به عند حروراء فدارت الدائرة على المختار فأسرع بالفرار إلى الكوفة، وتحصن بقصر الإمارة، إلا أن مصعبا حاصره في القصر حتى قُتل سنة سبعه وستين من الهجره، وهكذا انتهت حركة هذا المغامر الذي كان همه الوصول إلى الحكم بأية وسيلة، ولم تنفعه ادعاءاته بحب آل البيت والطلب بثأرهم، فقد انكشفت حيله، وتخلى عنه أهل العراق وأسلموه إلى مصيره المحتوم، وبعد أن استعاد ابن الزبير سيطرته على العراق.
فكان من الطبيعي أن يحدث الصدام بينه وبين عبد الملك بن مروان، فعزم عبد الملك على السير إلى العراق وانتزاعها من ابن الزبير وكان ذلك سنة واحد وسبعين من الهجره، وكان ذلك بعد أربع سنين من القضاء على المختار، ولعل عبد الملك بن مروان أخَّر هذا الصدام بينه وبين ابن الزبير إلى هذا الوقت؛ لكي يوطد دعائم حكمه في بلاد الشام، فقضى هذه السنين في حل مشاكله مع زفر بن الحارث الكلابي الذي كان معتصمًا بقرقيسياء مهددا بذلك إقليم الجزيرة كله، وقد عالج عبد الملك مشكلة زفر بالحكمة والسياسة، واصطلح معه، وأنهى بذلك مسألة قرقيسياء التي استمرت حوالي سبع سنين كالشوكة في جنب دولته.