نسائم الإيمان ومع الخليفه عبد الملك بن مروان ( الجزء الثالث )
إعداد / محمــــــد الدكـــــرورى
وقد رُوي أن رجلا سأل عبد الملك أن يخلو به، فأمر عبد الملك مَن عنده بالانصراف، فلما خلا به، وأراد الرجل أن يتكلم قال له عبد الملك احذر من كلامك ثلاثا إياك أن تمدحني فإني أعلم بنفسي منك، أو تكذبني فإنه لا رأى لكذوب، أو تسعى إليَّ بأحد من الرعية فإنهم إلى عدلي وعفوي أقرب منهم إلى جوري وظلمي، وإن شئت أقلتك، فقال الرجل أقلني فأقاله، وكان من جهود عبد الملك في إرساء دعائم الوحدة والاستقرار في الدولة الإسلامية، إصدار عملة إسلامية لأول مرة وتوحيد أوزانها، ضمانا للعدالة، وكانت هذه خطوة حضارية كبيرة فقد حررت اقتصاد الدولة الإسلامية من الاعتماد على العملات الأجنبية.
وبصفة خاصة الدينار البيزنطي، ومن الأعمال الباهرة لعبد الملك تعريب دواوين الخراج، والذي كان العمل فيه حكرا على غير العرب، وكان هذا وضعا شاذا فجاءت خطوة عبد الملك لتصحح الوضع، وتفتح المجال أمام العرب المسلمين للعمل في هذا الديوان والتدريب على شئون المال والاقتصاد، وكانت تلك الخطوة ذات أثر حضاري كبير في التاريخ الإسلامي، وكان أهم ما حدث في خلافة عبد الملك بن مروان هو أنه في سنة أربعه وسعين من الهجره، سار الحجاج إلى المدينة وأخذ يتعنت على أهلها ويستخف ببقايا من فيها من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وختم في أعناقهم وأيديهم يذلهم بذلك كأنس بن مالك وجابر بن عبد الله وسهل بن سعد الساعدي، وفي سنة خمسه وسعين من الهجره، حج بالناس عبد الملك الخليفة وسير الحجاج أميرا على العراق، وفي سنة سبعه وسعين من الهجره، فتحت هرقلة وهدم عبد العزيز بن مروان جامع مصر وزيد فيه من جهاته الأربع، وفي سنة أثنين وثمانين من الهجره، فتح حصن سنان من ناحية المصيصة وكانت غزوة أرمينية وصنهاجة بالمغرب، وفي سنة ثلاثه وثمانين من الهجره، بنيت مدينة واسط بناها الحجاج، وفي سنة أربعه وثمانين من الهجره، فتحت المصيصة وأودية من المغرب.
وفي سنة خمسه وثمانين من الهجره، بنيت مدينة أردبيل ومدينة برذعة، وقد بناهما عبد العزيز ابن حاتم بن النعمان الباهلي، وفي سنة سته وثمانين من الهجره، فتح حصن بولق وحصن الأخرم، وفيها كان طاعون الفتيات وسمي بذلك لأنه بدأ في النساء، وفيها مات الخليفة عبد الملك في شوال وخلف سبعة عشر ولدا، وكانت من الإصلاحات والإنجازات فى عهد الخليفه عبد الملك بن مروان، أنه اعاد بناء الكعبة التي هدمها الحجاج سنة ثلاثه وسبعين من الهجره، وقد قضى الخليفة عبد الملك بن مروان على الفتن التي كانت تعم العالم الإسلامي عندما تولى الخلافة، ويقول عنه ابن خلدون هو من أعظم خلفاء الإسلام والعرب
وكان يقتدي في تنظيم الدولة بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وهو أول من نقل الديوان من الفارسية إلى العربية فكان ذلك سببا في اتساع نطاق العالم العربي إلى ما هو عليه الآن، وهو أول من رفع يديه على المنبر، وهو الذى أعطى الطابع النهائي لنظام البريد المتطور، وهو الذى صكّ النقود الإسلامية وجعلها العملة الوحيدة بالعالم الإسلامي لأول مرة، فهو أول من ضرب الدنانير وكتب عليها القرآن، فكتب عليها، قل هو الله أحد، وفي الوجه الآخر لا إله إلا الله، وطوقه بطوق فضة وكتب فيه ضرب بمدينة كذا وكتب خارج الطوق محمد رسول الله أرسله بالهدى ودين الحق، وهو أول من كسا الكعبة بالديباج.
وفي عهده ابتكر الحجاج قضية نقط الكلمات القرآنية فأزال الشك الذي لحق بعض الكلمات قبل ابتكار النقط، وتمت في عهده إصلاحات زراعية وتجارية كثيرة عادت بالخير الوفير على الأمة الإسلامية، وقد بنى الخليفه عبد الملك بن مروان، مسجد قبة الصخرة على الصخرة المقدسة التي مستها أقدام النبي عليه الصلاة والسلام ليلة الإسراء، وهو غير المسجد الأقصى الذي أعاد بناءه ابنه الوليد، ومسجد قبة الصخرة فريد في نوعه، فقد بني مثمن الأضلاع، وارتفعت فوقه قبة عالية مزخرفة بالفسيفساء بدقة متناهية، وكان من أسباب بنائه على هذا النحو من الفخامة القضاء على إعجاب بعض المسلمين بكنيسة القيامة.
التي كانت شامخة بهذه المنطقة، وقد بنى قبة الصخرة المباركة الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، حيث بدأ العمل في بنائها سنة سته وستين من الهجره، وتم الفراغ منها سنة اثنين وسبعين من الهجره، وقد اشرف على بنائها المهندسان العربيان رجاء بن حيوة وهو من بيسان فلسطين ويزيد بن سلام مولى عبد الملك بن مروان وهو من القدس، وكان مدينة بيت المقدس هي الأخرى مدينة مقدسة عند المسلمين، وقد أصبح العرب من القرن الثامن الميلادي يؤلفون الكثرة الغالبة من سكانها، وأراد الخليفة عبد الملك بن مروان أن يكون فيها مسجد للمسلمين لا يقل فخامة عن كنيسة القبر المقدس حين جددت.
وذلك بعد أن دمرها كسرى أبرويز، فاستخدم خراج مصر في تشييد عدة صروح تعرف في مجموعها باسم الحرم الشريف، وشيد في الطرف الجنوبي من المدينة المسجد الأقصى، وقد دمر زلزال هذا المسجد، ثم أعيد بناؤه، وأدخلت عليه فيما بعد تعديلات كثيرة، ولكن القبلة لا تزال كما كانت في أيام عبد الملك، كما أن معظم العمد مأخوذ من بازيليكا جستنيان التي كانت قائمة في أورشليم، ويرى المقدسي أن بيت المقدس أجمل من المسجد الأموي العظيم المقام في دمشق، وإن النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، قد التقى فيهِ بإبراهيم، وموسى، وعيسى والأنبياء جميعا، ثم صلى فيه معهم.
وانه رأى بالقرب منه الصخرة التي يعتقد بنو إسرائيل أنها سرة الدنيا، وقد اتسع العالم الإسلامي في عهده اتساعا شاسعًا، وكان عبد الملك حسن الصلة بآل البيت، فكان يتودد لعلي بن الحسين ويبره، وقيل أنه لقيته امرأة وهو جريح فقالت يا أمير المؤمنين قال ما شأنك قالت توفي أخي وترك ستمائة دينار فدفع إلى من ميراثه دينار واحد فقيل هذا حقك فعمي الأمر فيها على عبد الملك فأرسل إلى الشعبي فسأله فقال نعم هذا توفي فترك ابنتين فلهما الثلثان أربعمائة وأما فلها السدس مائة وزوجة فلها الثمن خمس وسبعون واثني عشر أخاً فلهم أربعة وعشرون وبقي لهذه دينار.
وقد أوصى الخليفه عبد الملك بن مروان بنيه بتقوى الله ونهاهم عن الفرقة والاختلاف وقال كونوا بني أم بررة وكونوا في الحرب أحرارا وللمعروف منارا فإن الحرب لم تدن منية قبل وقتها وإن المعروف يبقى أدره وذكره وأحلوا في مرارة ولينوا في شدة وكونوا كما قال ابن عبد الأعلى الشيباني إن القداح إذا اجتمعن فرامها، بالكسر ذو حنق وبطش باليد عزت فلم تكسر وإن هي بددت، فالكسر والتوهين للمتبدد، ثم قال يا وليد اتق الله فيما أخلفك فيه إلى أن قال وانظر الحجاج فأكرمه فإنه هو الذي وطأ لكم المنابر وهو سيفك يا وليد ويدك على من ناوأك فلا تسمعن فيه قول أحد وأنت إليه أحوج منه إليك.
وادع الناس إذا مت إلى البيعة فمن قال برأسه هكذا فقل بسيفك هكذا، وقال عنه عمر بن عبد العزيز،أنه سمى ابنه عبد الملك على اسم عمه عبد الملك، وعندما مات عبد الملك بن مروان حزن عليه عمر أشد الحزن، ويقال إنه لبس الحداد عليه سبعين يوما، وكان عمر يرى في عمه عبد الملك صورة صادقة للخليفة المسلم، وقال نافع عنه: لقد رأيت المدينة وما بها شاب أشد تشميراً، ولا أفقه، ولا أنسك، ولا أقرأ لكتاب الله من عبد الملك بن مروان، وقال عنه أبو الزناد فقهاء المدينة أربعه : سعيد بن المسيب وعبد الملك بن مروان وعروة بن الزبير وقبيصة بن ذؤيب، وقال عنه ابن عمر: ولد الناس أبناء وولد مروان أباً.
وقد سئل عبد الله بن عمر، من نسأل بعد رحيلكم فقال: إن لمروان ابنا فقيها فاسألوه، وقال الشعبي عنه: ما جالست أحدا إلا وجدت لي عليه الفضل إلا عبد الملك بن مروان، توفي عبد الملك في النصف من شوال عام سته وثمانين من الهجره، وصلى عليه ابنه الوليد، ثم بُويِع له بالخلافة في اليوم نفسه، وكان ولي العهد بعد عبد الملك هو أخاه عبد العزيز بن مروان؛ لأن أباهما أخذ لهما البيعة معًا من أهل الشام في بداية سنة خمسه وستين من الهجره، وكان عبد الملك قد أراد أخاه على التنازل عن الخلافة لابنه الوليد فأبى عبد العزيز ذلك، وكاد يحدث بينهما من جرَّاء ذلك شقاق إلا أن المشكلة حُلَّت بموت عبد العزيز بن مروان قبل أخيه عبد الملك، فبايع عبد الملك لولديه الوليد ثم سليمان.