نسائم الإيمان ومع الفاروق وزوجته السيده أم كلثوم بنت الإمام
إعداد / محمـــد الدكـــرورى
الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، هو أمير المؤمنين عمر بن نُفيل بن عبد العزّى بن رياح بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النّضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان القرشيّ العدويّ، وكنّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبا حفص، وأمه هي حنتمة بنت هشام المخزومية، وهي أخت ابي جهل، وكان لقب عمر بن الخطاب الفاروق، لأنه فرّق بين الحق والباطل، وكان مولده بعد عام الفيل بثلاث عشرة سنة.
وأراد الله عز وجل، له الهداية وعزة الأمة باعتناقه للإسلام بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، بست سنوات، وهو ابن سبع وعشرين سنة، واستشهد في أواخر ذي الحجة من سنة ثلاث وعشرين بعد الهجرة، وقيل أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان شديدا قويا وهو الذي كان يقال عنه إذا مشى أسرع، وإذا تكلم أسمع، وإذا ضرب أوجع، وإذا أطعم أشبع، وكان رضي الله عنه ميالًا للأخذ بعزائم الأمور، وعندما هداه الله سبحانه وتعالى للإسلام هذب صفاته هذه، وجعلها ميزة له ومفخرة لأي ذكر.
فقد جند قوته وشدته لإحقاق الحق والعدل، أما مع الضعفاء والمساكين فقد كان لينا حليما، والحقيقة أنه اجتمع في عمر من الصفات ما لا يجتمع في غيره، اللين والشدة، الحلم والثورة، الغضب والرحمة، كلها اجتمعت في شخصيته ولكن كان لكل منها دوره في الذي لا يحيد عنه ووقته الذي يظهر فيه، يروى عنه أنه كان شديد المحاسبة لنفسه وأهله وكان إذا نهى الناس عن شيء تقدم إلى أهله وقال لهم: إني نهيت الناس عن كذا وكذا، وإن الناس ينظرون إليكم كما ينظر الطير إلى اللحم.
فإن وقعتم وقعوا وإن هبتم هابوا وإني والله لا أوت بأحد منكم أتى بما نهيت الناس عنه إلا ضاعفت له العذاب لمكانه مني فمن شاء منكم أن يتقدم ومن شاء منكم أن يتأخر، وعندما قبلت أم كلثوم بعمر زوجا بالتأكيد كانت تعلم فيه كل هذه الصفات، لكنها كانت تراها مزايا عظيمة، لا غرابة في هذا، فهي ابنة علي بن أبي طالب، تربت في كنفه على نفس الطبائع ونفس العقلية، لذا لم تضق يوما باستشعاره العظيم والدقيق والمرهف للمسؤولية، لم تنكر عليه خروجه في كل يوم لأزقة المدينة يتفقد أحوال رعيته.
بل كانت عونا لعمر رضى الله عنه، في كثير من الأحيان، وكانت مشاعر هذه السيدة العظيمة أم كلثوم حين حدثت المجاعة في جزيرة العرب، بسبب جدب وقحط أصاب الناس فاشتد الجوع على الناس وماتت المواشي، حتى سمي ذلك العام بعام الرمادة، لأن الريح كانت تسفي ترابا كالرماد، في ذلك العام جيء لعمر بن الخطاب بخبز مفتوت بسمن، فكان عنده رجل بدوي فدعاه ليأكل معه، فجعل الرجل يتبع في اللقمة الدسم من وجه الصفحة فقال له عمر مداعبا: كأنك تحب السمن والدسم.
فأجاب الرجل: نعم يا أمير المؤمنين فوالله ما أكلت سمنًا ولا زيتًا منذ كذا وكذا إلى اليوم، فكان رد فعل أمير المؤمنين عمر، لقد حلف ألا يذوق لحمًا ولا سمنا حتى تنتهي المجاعة ويحيى الناس، وعندما عاتبه أحد المقربين في ذلك اليمين قال له: كيف يعنيني شأن الرعية إذا لم يمسسني ما مسهم، وقد وفى أمير المؤمنين بيمينه ذلك، واكتفى بالزيت وظل عاما كاملا حتى تغير لونه إلى السواد وقد كان أبيض اللون، ولكن كيف كان موقف الزوجة الفتية أم كلثوم من هذا كله؟
فيروى أن ملك الروم كاتب أمير المؤمنين عمر وتقرب إليه ببعض الهدايا، فلما قدم البريد من ملك الروم إلى عمر أرادت الزوجة الصالحة أم كلثوم أن تشارك زوجها شيئًا من مسؤوليات الخلافة و مهماتها، فأرسلت مع البريد إلى زوجة الملك قوارير من طيب، فلما وصلت هديتها إلى زوجة ملك الروم أرسلت بدورها عقدًا فاخرًا، عندما وصل العقد إلى يد أم كلثوم نظرت إليه بدهشة، وأدركت من فورها أن ذلك سيسوء زوجها، الذي يأبى على نفسه أن ينتفع من صلاته بالخلافة وعوائدها بشيء.
ومع ذلك لم تخف ذلك عن زوجها، متأولة أنه من حقها وأن تشدده على نفسه لا ينبغي أن يطال أسرته، بل كانت له نعم الزوجة الصالحة المعينة على الخير، صدق حدسها فما إن سردت على زوجها ما حدث حتى طلب منها أن تعطيه العقد، ففعلت عن طيب خاطر منها، فباعه وعوضها بمقدار ما أنفقت من ثمن الطيب ثم دفع الباقي إلى بيت مال المسلمين، ولعل أم كلثوم تذكرت آنذاك حادثة شبيهة بتلك، جرت مع ابن زوجها عبد الله بن عمر، حين اشترى عبد الله إبلًا هزيلة وأرسلها إلى الحمى حيث يرعى المسلمون أنعامهم.
فما مضى وقت قليل إلا وسمنت هذه الإبل، فلما دخل عمر السوق لفت نظره تلك الإبل السمينة، فسأل لمن هي، فقالوا لعبد الله بن عمر، فتغير لونه واستدعى ابنه على الفور، فلما قدم سأله غاضبًا: ما هذه الإبل يا عبد الله؟ لم يدرك عبد الله سر غضب والده فأجابه متلطفًا: إبل هزيلة يا والدي اشتريتها، وبعثت بها إلى الحمى ابتغي بها ما يبتغي المسلمون، قطب عمر جبينه وقال بحدة، ويقول المسلمون: ارعوا إبل ابن أمير المؤمنين، اسقوا إبل ابن أمير المؤمنين، يا عبد الله خذ رأس مالك واجعل الربح في بيت مال المسلمين.
وعندما تذكرت أم كلثوم هذه الحادثة وربطتها بحادثة العقد جرت دمعة على وجهها وهي تتمتم في سرها، كان الله في عونك يا أمير المؤمنين وجعلني سندا لك فيما حملته من أمانة الخلافة ومسؤولياتها، وقيل أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يحب الحسن والحسين رضي الله عنهما ويجلهما فهما من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال فيهما النبي صلى الله عليه وسلم أحب الله من أحبهما، ويروى في هذا أن حللًا من اليمن أتته فوزعها على من حضر من الناس.
فلما انتهى من التوزيع لمح الحسن والحسين قادمين فبدى الأسف على وجههه، أتعلمون لماذا؟ لأنهما لم يبق لهما من تلك الحلل شيء، فكتب إلى واليه على اليمن أن ابعث بحلتين للحسن والحسين وعجل بهما، فأرسل إليه حلتين جميلتين فكساهما، ويروي الحسين رضي الله عنه القصة التالية فيقول: قال لي أمير المؤمنين عمر ذات يوم: يا بني لو أنك تأتينا وتغشانا فإنا نرحب بك، فجاء الحسين يوما إلى عمر وعنده معاوية بن أبي سفيان لعمل يهم المسلمين، وعبد الله بن عمر واقف بالباب لم يؤذن له بالدخول.
فرأى ذلك الحسين فعلم أن الوقت غير مناسب للزيارة فرجع، فلقيه عمر بعد أيام قليلة، فعاود دعوته لزيارته قائلا: يا بني لم أرك أتيتنا، فقال له الحسين: جئت إليك يا أمير المؤمنين لكنك كنت مشغولا بأمور المسلمين، وكان عندك معاوية بن أبي سفيان، فرأيت ابنك عبد الله رجع فرجعت معه، نظر إليه عمر بحب عظيم وقال وهو يضع يده على رأسه: أنت أحق بالإذن من عبد الله بن عمر، إنما أنت من رؤوسنا ما ترى، الله الله ثم أنتم آل البيت.