نسائم الإيمان ووقفه فى حياة السيده أم كلثوم بنت الإمام على (الجزء الثانى)
إعداد / محمـــد الدكـــرورى
لقد تميّز أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، بصفات عظيمة لم يتصف بها سواه من الرجال، فقد اختصه الله تعالى، ليعز به الإسلام ويُعلي رايته، ويكون خليفة لخير البشر محمد صلى الله عليه وسلم، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه، رجلا شديد الطول، حيث كان يفوق الناس في الطول، وكان رجلا جسيما، وكان أبيض البشرة وشديد الحُمرة، كما أنه كان أعسر ولكنه كان يعمل بكلتا يداه، وكانت أم كلثوم رضي الله عنها، في بيت أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وكان يحبها ويجلها لأنها من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم
الذين تجذرت فيهم وتجسدت أخلاق النبوة وصفاتها، وفي بيت عمر بن الخطاب عاشت أم كلثوم زمنا أنجبت فيه ولدين، زيد بن عمر بن الخطاب ورقية بنت الخطاب، ولما استشهد أمير المؤمنين عمر إثر طعنة قاتلة من خنجر مسموم لأبي لؤلؤة المجوسي الحاقد على الإسلام وأهله، بكت الزوجة المخلصة زوجها وحزنت عليه، ولم تكن هي وأسرته وحدهم من حزن عليه، فقد فجع المسلمون بموته وبكوا لفراق خليفتهم العادل التقي الورع، والزاهد الأواب والتواب، وتقدم منه قبل أن يدفن علي بن أبي طالب وقال بصوت تخنقه العبرة:
ما خلفت أحدا أحب أن ألقى الله بمثل عمله منك، وايم الله وإن كنت لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك، كثيرا ما كنت أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول ” ذهبت أنا وأبو بكر وعمر، دخلت أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر” ولكن ماذا حل بأم كلثوم بعد وفاة زوجها وهي ما تزال شابة في ريعان الصبا، فيقال أن أباها عليًا فاتحها في موضوع الزواج، فنصحها أخواها الحسن والحسين بأن لا يجعلا أمرها بيده، خشية عليها من أن تكون لرجل بعد عمر، ومن هو عمر؟ في العدل والصلاح والتقى.
ثم خلف على أم كلثوم بعد عمر بن الخطاب، عون بن جعفر بن أبي طالب، فتوفي عنها، ثم خلف عليها أخوه محمد بن جعفر بن أبي طالب، فتوفي عنها، فخلف عليها أخوه عبد الله بن جعفر بن أبي طالب بعد أختها زينب بنت عليّ بن أبي طالب، فقالت أم كلثوم: إني لأستحيي من أسماء بنت عُميس، إن ابنيها ماتا عندي، وإني لأتخوّف على هذا الثالث، فهلكت عنده، ولم تلد لأحد منهم شيئا، وقال الحسن بن الحسن بن على : لما تأيّمت أم كلثوم بنت علي عن عمر، فدخل عليها أخواها الحسن، والحسين.
فقالا لها: إن أردت أن تُصيبي بنفسك مالًا عظيمًا لتصيبنّ، فدخل علي بن أبى طالب، فحمد الله، وأثنى عليه، وقال: أي بنية، إن الله قد جعل أمرك بيدك، فإن أحبَبت أن تجعليه بيدي، فقالت: يا أبت، إني امرأة أرغب فيما ترغب فيه النساء، وأحب أن أصيب من الدنيا، فقال: هذا من عمل هذين، ثم قام يقول: والله لا أكلم واحدا منهما، أو تفعلين، فأخذا شأنها وسألاها ففعلت، فتزوجها عون بن جعفر بن أبي طالب، وقد رافقت أخاها سيد الشهداء من المدينة إلى كربلاء حتى استشهاده، ثم سارت مع سبايا آل محمد إلى الكوفة .
ومنها إلى الشام في رحلة السبي التي أكملت المسيرة الحسينية عبر إعلامها النسوي الضخم الذي تمثل في حرائر الوحي، فترك هذا الإعلام أثره الكبير والمدوّي في الرأي العام، ومثل دورا كبيرا في نشر الهدف العظيم لثورة الحسين، وإدانة جرائم الأمويين بحق الإسلام والمسلمين، وكما أهاجت في نفوس أهل الكوفة شعوراً لاذعاً بالحسرة والندم والخزي والعار وهي ترى نساء الكوفة يبكين على الحسين ورجالهن خذلوه وقتلوه، وقد رأت أم كلثوم أهل الكوفة يناولون الأطفال الذين على المحامل بعض التمر والخبز والجوز.
فصاحت بهم وهي في المحمل: يا أهل الكوفة، إن الصدقة علينا حرام، فإنتبه الناس كلهم لهذا الصوت الذي دوّى في آذانهم وملأ الفضاء كأن صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد بُعث من جديد، فوجموا كأن على رؤوسهم الطير وضاقت بهم الأرض فجلسوا يبكون، ولكن هل ينفع الندم بعد تلك الجريمة الشنعاء ؟ وهل وصل الأمر بهم إلى أن يقتلوا سبط الرسول ويسبوا نساءه ثم يتصدّقوا على آل بيته ؟ وأخذت أم كلثوم الطعام من أيدي الأطفال وأفواههم ورمت به إلى الأرض، واشتدت عاصفة البكاء والناس تلطم على رؤوسها .
وذلك ندما على خذلان الحسين، وفداحة الإثم العظيم الذي أرتكب في كربلاء وتحولت المدينة إلى مجلس للعزاء، وهنا رأى الناس امرأة تطلع رأسها من المحمل وتقول لهم بلهجة التأنيب الشديد: صه يا أهل الكوفة، تقتلنا رجالكم، وتبكينا نساؤكم ؟ فالحاكم بيننا وبينكم الله يوم فصل القضاء، ولقد مثلت السيدة أم كلثوم دورا تبليغيا عظيما لنشر الهدف السامي لثورة الإمام الحسين والتنديد بجرائم الأمويين عبر الخطب والأشعار التي أطلقتها فكان مما قالته في خطبتها في الكوفة: يا أهل الكوفة، سوأة لكم، ما لكم خذلتم حسيناً وقتلتموه.
وانتهبتم أمواله وورثتموه، وسبيتم نساءه ونكبتموه، فتبّاً لكم وسحقا، ويلكم أتدرون أي دواه دهتكم، وأي وزر على ظهوركم حملتم، وأي دماء سفكتموها، وأي كريمة أصبتموها، وأي صبيّة سلبتموها، وأي أموال انتهبتموها ؟ قتلتم خير رجالات بعد النبي، ونزعت الرحمة من قلوبكم، ألا إن حزب الله هم الفائزون، وحزب الشيطان هم الخاسرون، وبعد هذه الرحلة الشاقة والعسيرة وبعد أن قدّمت تلك قافلة الحسين، كل ما لديها من تضحية في سبيل الله، تصل أم كلثوم معها إلى مدينة جدها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وتنظر إليها بحسرة ممزوجة بألم عميق وهي ترى البيوت خلت من رجالها وشبابها، ولم يطل العمر بالسيدة أم كلثوم بنت أمير المؤمنين بعد استشهاد أخوتها وبني عمومتها وأهل بيتها فقد توفيت بعد أربعة أشهر من فاجعة كربلاء الأليمة التي تركت في قلبها جرحا لا يشفى وندباً لا يزول وقرحاً لا يندمل، وقال أبو عمر: وتوفيت أم كلثوم، وابنها زيد في وقت واحد، وقد كان زيد أُصيب في حرب كانت بين بني عدي ليلًا، كان قد خرج، ليُصلح بينهم، فضربه رجل منهم في الظلمة، فشجه، وصرعه، فعاش أياما.
ثم مات، وهو، وأمه في وقت واحد، وكانت فيهما سنتان فيما ذَكروا لم يورث واحد منهما من صاحبه، لأنه لم يعرف أولهما موتا، وروى ابن عمر، أنه صلى على أم كلثوم بنت علي، وابنها زيد، وجعله مما يليه، وكبّر عليهما أربعا، وخلفه الحسن، والحسين ابنا عليّ، ومحمد بن الحنفيّة، وعبدَ الله بن عباس، وعبد الله بن جعفر، وقال نافع: وُضعت جنازة أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب امرأة عمر بن الخطاب، وابن لها يقال له: زيد، والإمام يومئذ سعيد بن العاص.
وبوفاة السيدة أم كلثوم بنت علي رضي الله عنها ينتهي حديثنا، أهم ما جاء في سيرتها أنها كانت جسرا غاليا ربط بين قطبين هامين من أقطاب الإسلام، فعبرها تجسدت محبة عمر بن الخطاب لعلي حين طلب ابنته ورغب في مصاهرته، وتجسدت محبة علي لعمر حين زوجه ابنته ورحب بهذه المصاهرة، فلو لم يكن في حياة أم كلثوم غير هذه الحادثة الهامة لكفتنا، فما بالكم بما في حياتها من الصلاح والفلاح والتقوى والخير العميم.