العمق نيوز
جريدة أخبارية شاملة

مصر وتركيا .. وسر الشافعي

0

الدكتور. حمادة شعبان
“تركيا هي البوابة السياسية للعالم الإسلامي ومصر هي بوابته العلمية ” مقولة قديمة، يذكرها بعض العلماء الأتراك عند حديثهم عن منطقة الشرق الأوسط وجغرافيتها السياسية. وهي مقولة تؤكد أن عالمنا الإسلامي لا غنى له عن “مصر” قلب العروبة وبلد الأزهر، و”تركيا” وريثة الدول الكبرى، وصاحبة العرق المنتشر في معظم دول العالم. من أجل ذلك فإن أهمية تطبيع العلاقات بين البلدين الكبيرين والشعبين الشقيقين لا تؤتي ثمارها للبلدين فقط بل لشعوب العالم الإسلامي بأكمله. ومن ثم فإن زيارة الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” إلى مصر بعد 10 سنوات من القطيعة بين البلدين ولقائه بالرئيس عبدالفتاح السيسي تحمل أهمية عظيمة على كافة الأصعدة الثقافية والاقتصادية والسياسية، ليس على مستوى البلدين فقط، بل في المنطقة بأكملها ــ لا سيما ــ في “فلسطين” المحتلة. وهذا يكفي لأن يجعل الغرب بأكمله يتابع عن كسب تطور العلاقات بين البلدين.

وسوف نتناول هنا باختصار أهمية هذه الزيارة وذلك على النحو الآتي:

أولًا: المستوى الاقتصادي

لم تتوقف العلاقات التجارية بين مصر وتركيا في الفترة التي تجمدت فيها العلاقات السياسية والدبلوماسية بين البلدين، وتعد مصر هي الشريك التجاري الأكبر لتركيا في إفريقيا، في حين تُعد تركيا خامس أكبر شريكٍ تجاري لمصر، وهذا يُعني أن حجم التجارة الكبير هذا هو أكبر بكثير من حجم التجارة بين مصر وبعض الدول التي ترتبط بها بعلاقات طبيعية. وقد ازداد حجم التبادل التجاري بين البلدين بعد دخول اتفاقية التجارة الحرة حيز التنفيذ في عام 2007، ووصل الآن إلى ما يقرب من 10 مليار دولار.

وتعد تركيا من أهم مقاصد الصادرات المصرية، بل هي السوق الثاني لهذه الصادرات في العالم، ووفقًا للجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء فإن الصادرت المصرية إلى تركيا بلغت 3 مليار دولار في عام 2023.

ووفقًا “مصطفى دنيزير” رئيس “مجلس الأعمال التركي المصري” فإن حجم الاستثمارات التركية في مصر بلغ 3 مليار دولار، معظمها في صناعة النسيج والملابس الجاهزة، توفر حوالي 100 ألف فرصة عمل. وذكر “دنيزير” أن زيارة الرئيس التركي للقاهرة وعودة العلاقات إلى طبيعتها بين البلدين من شأنه منح العلاقات التجارية مميزات أفضل خلال الفترة المقبلة، بل من الممكن مضاعفة حجم التجارة بين البلدين. وهذا ما ذكره الرئيسان في المؤتمر الصحفي، حيث أعلنا أن هناك رغبة مشتركة بين البلدين في رفع مستوى التبادل التجاري إلى 15 مليار دولار. 

كما ذكر “دنيزير” أن الصناعة أيضًا في البلدين ستستفيد من تطبيع العلاقات، حيث يمكن أن توفر “تركيا” كافة السلع الوسيطة التي تحتاجها الصناعة المصرية، وهي قادرة على البدأ في هذا الأمر في الحال، مؤكدًا أن رجال الصناعة في البلدين لديهما رغبة كبيرة في التعاون والشراكة، مضيفًا أن هذا كله يعد مؤشرًا جيدًا على أن الأمور بين البلدين ستكون على ما يرام في الفترة القادمة.

ثانيًا: المستوى السياسي

تأتي زيارة “أردوغان” إلى مصر في وقت تتصاعد فيه وتيرة السياسة الداخلية في تركيا، حيث انتخابات البلدية المزمع اجراؤها في نهاية مارس المقبل، وهي الانتخابات التي لم تكن نتائجها السابقة مرضية لحزب العدالة والتنمية الحاكم، الذي لم يحظ بثقة المدن الكبرى مثل “أنقرة” و”اسطنبول”، ومن ثم فهو يريد عودة الثقة بينه وبين هذه المدن، عن طريق عدة اجراءات من أهمها السعي لإيجاد حلٍ لقضية اللاجئين السوريين الذين تستغلهم المعارضة وإعلامها في جذب أصوات الناخبين. ولهذا أعلن “أردوغان” قبل الانتخابات الرئاسية الماضية أنهم يسعون لإعادة مليون لاجئ سوري إلى بلادهم وبناء مساكن لهم هناك.

كذلك يبغي “أردوغان” إعادة النظر في السياسة الخارجية لتركيا، التي تعرضت لهزات عنيفة خلال العشر سنوات الأخيرة، تخلت فيها تركيا عن سياستها “صفر مشاكل” التي رسم استراتيجيتها “أحمد داود أوغلى” إبان توليه حقبة وزارة الخارجية. وكانت مصر هي إحدى أهم الدول التي تدهورت علاقتها بتركيا، وكانت المعارضة التركية تعارض هذا الأمر والشعب التركي كذلك، نظرًا لمكانة مصر وأهميتها وثقلها الإقليمي. وقد انتقد “كليجدار أوغلى” ـــ زعيم حزب الشعب الجمهوري والمنافس لأردوغان في الانتخابات الأخيرة ــ سياسة “أردوغان” تجاه مصر، وقال في لقاء تلفزيوني عام 2021: “لماذا افتعلت المشاكل مع مصر؟ يجب أن نكون مع مصر”. ومن ثم فإن “أردوغان” يريد تصفير المشاكل مع دول المنطقة، وعلى رأسها مصر.

كذلك هناك عديد من الملفات التي لا يمكن أن تتحرك فيها “تركيا” دون وجود “مصر” مثل الملف الليبي، وعودة الاستقرار إلى ليبيا، وإجراء انتخابات رئاسية في أقرب وقت. كذلك أيضًا حرص تركيا على التعاون مع مصر فيما يخص منطقة شرق المتوسط الغنية بالطاقة.

أما الملف الأهم والأبرز فهو القضية الفلسطينية والاعتداءات الصهيونية على قطاع غزة، ومما لا شك فيه أن هذا الملف كان مدرجًا بقوة على جدول أعمال الزيارة، وبات دور مصر واضحًا فيه أمام الجميع. وهناك توافق كبير بين مصر وتركيا على ضرورة الوقف الفوري للاعتداءات الصهيونية على الشعب الفلسطيني، وإدخال المساعدات، وحل القضية الفلسطينية حلًا نهائيًا عن طريق إقامة الدولة الفلسطينية على حدود 1967م. ولا شك أن التعاون المصري التركي سوف يفيد القضية الفلسطينية، نظرًا لقوة الدولتين ومكانتهما العالمية والإقليمية من جهة، والثقة التي تتمتع بها الدولتان من قِبل الشعب الفلسطيني من جهة أخرى.

ثالثًا: المستوى الثقافي

إن العلاقات الثقافية بين مصر وتركيا علاقات قوية للغاية، تمتد جذورها إلى مئات السنين في تاريخ البلدين. والشعب التركي به كثير ممن يجيدون اللغة العربية، وأكثر منهم من يريدون تعلمها، فهي لغة الدين والقرآن. كما يرتبط الشعب التركي بالأزهر الشريف، جامعًا وجامعة، و”رواق الأتراك” في الجامع الأزهر خير شاهد على ذلك، كما يوجد هناك عدد من الطلاب الأتراك الذين يدرسون في كليات جامعة الأزهر، وهناك كثير ممن يطمحون إلى الدراسة فيها.

على الجانب الآخر فإن مصر هي أكثر دولة في العالم بها أقسام لتعليم اللغة التركية، والمركز الثقافي التركي “مركز يونس أمره” بالقاهرة هو الأشهر في العالم والأكثر اكتظاظًا بالطلاب والطالبات الذين يتعلمون اللغة التركية.

يُضاف إلى ذلك أن الحكومتين المصرية والتركية على دراية عظيمة بقيمة ثقافتيهما وعالميتها وعظمتها، فمصر بلد الأزهر الشريف وقلب العروبة ووريثة الحضارات ذات التراث الإنساني العظيم الذي هو ملك للإنسانية كلها، وتركيا هي وريثة دول حكمت العالم الإسلامية وخلّفت أثار وحضارات هي أيضًا ملك للإنسانية، ومن ثم فإن الجانب الثقافي يُعوّل عليه كثيرًا في تحقيق التقارب الشعبي بين البلدين.

وهذا ربما ما جعل الرئيس التركي يزور مسجد الإمام الشافعي، الذي عاش في مصر، وصاحب المذهب المشهور الذي ينتمى إليه معظم المصريون، وصاحب المكانة العظيمة في قلوب المصريين، فهذه الزيارة كانت من أجل التقارب مع الشعب المصري، المعروف بأنه شعب متدين بطبعه.

خلاصة القول أن عودة العلاقات بين البلدين الكبيرين لها أبعاد إيجابية مهمة لصالح الدولتين والعالم الإسلامي بأكمله.

دكتور ورئيس وحدة اللغة التركية بمرصد الأزهر

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد