العمق نيوز
جريدة أخبارية شاملة

رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي ورئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين يتحدث عن مفهوم الهيمنة التشريعية

0
رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن مفهوم الهيمنة التشريعية
بقلم \ المفكر العربى الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربي الدولي
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
الرئيس التنفيذي لجامعة بيرشام الدولية بأسبانيا
الرئيس التنفيذي لجامعة سيتي بكمبوديا
الرئيس التنفيذي للمؤسسة الدولية للدراسات المتقدمة بأمريكا
ورئيس جامعة الوطن العربي الدولي ( تحت التأسيس )
الرئيس الفخري للجمعية المصرية لتدريب وتشغيل الخريجين
الرئيس الفخري لمنظمة العراق للإبداع الإنساني بألمانيا الإتحادية
الرئيس التنفيذي للجامعة الأمريكية الدولية
الرئيس الفخري للمركز الدولي الفرنسي للعلماء والمخترعين
الرئيس الشرفي للإتحاد المصري للمجالس الشعبية والمحلية
قائمة تحيا مصر
نائب رئيس المجلس العربى الافريقى الاسيوى
مما لاشك فيه أن كلَّ قاعدة من قواعد الشريعة الإسلامية لها طابعها الأخلاقي، ووراءها الدافع الإنساني، سواء أكانت قاعدةً من قواعد المعاملات، أو من قواعد العبادات، أو من قواعد الحدود، وقبل أن نفصِّل القول في هذه السمة، علينا أن نذكُر ونتذكر أن الإسلامَ لا ينظُر إلى الشكل والمظهر، ولكن ينظر إلى الجوهر والمَخبَر، ومن ثَم كان للنية الاعتبارُ الأول في تكييف الأعمال والحُكم عليها:
عن عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنما الأعمال بالنِّيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى؛ فمن كانت هجرتُه إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها، فهجرتُه إلى ما هاجر إليه))[1].
يقول الدهلوي: “اعلم أن النيةَ رُوح، والعبادة جسد، ولا حياة للجسد بدون الروح، والروح لها حياة بعد مفارقة البدن، ولكن لا يظهر آثار الحياة كاملة بدونه؛ ولذلك قال تعالى: ﴿ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ ﴾ [الحج: 37].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما الأعمال بالنِّيات))، وشبَّه النبي صلى الله عليه وسلم – في كثيرٍ من المواضع – مَن صدَقت نيتُه ولم يتمكَّنْ من العمل لمانعٍ، بِمَن عمِل ذلك العمل؛ كالمسافر والمريض لا يستطيعان وِردًا واظَبَا عليه، فيُكتَب لهما، وكصادق العزمِ في الإنفاق وهو مُملِق، يُكتَب كأنه أنفق”[2].
فقيمة العمل إذًا والحكم عليه، يكون بالنية المصاحبة له؛ أي بالدافع أو الباعث الذي دفَع صاحبه إليه، وقد سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل: يُقاتِل شجاعةً، ويقاتل حميَّة، ويقاتل رياء، أيُّ ذلك في سبيل الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن قاتَل لتكون كلمةُ الله هي العليا، فهو في سبيل الله))[3].
ومِن ناحية أخرى قد يكون العملُ في ظاهره طيبًا نافعًا للفرد والجماعة وأمَّة المسلمين، ومع ذلك لا يسقُطُ ثوابه فحسب، بل أكثر من ذلك، يعتبرُه الإسلام – على الرغم من ظاهرِه ونفعه – رذيلةً يأثم صاحبُها، ويعاقَب عليها، وليس أدل على ذلك من الحديثِ الجامع الذي رُوي عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أولَ الناس يقضى يوم القيامة عليه رجلٌ استُشهد، فأُتي به فعرَّفه نِعمه، قال: فما عمِلتَ فيها؟ قال: قاتلتُ فيك حتى استشهدت، قال: كذَبتَ، ولكنك قاتلتَ لأن يقال: جريء، فقد قيل، ثم أُمر به فسُحِب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلَّم العلم وعلَّمه، وقرأ القرآن، فأُتي به فعرَّفه نِعمه فعرَفها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: تعلَّمتُ العِلم وعلَّمته، وقرأتُ فيك القرآنَ، قال: كذبتَ، ولكنك تعلمتَ العلم ليقال: عالمٌ، وقرأتَ القرآن ليقال: قارئ، فقد قيل، ثم أُمر به فسُحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسَّع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال كله، فأُتي به فعرَّفه نعمه فعرَفها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: ما تركتُ من سبيل تُحبُّ أن يُنفَق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبتَ، ولكنك فعلتَ ليقال: هو جَوَاد، فقد قيل، ثم أُمر به فسُحب على وجهه، ثم ألقي في النار))[4].
وقد تصدُقُ النية، ومع ذلك يؤدِّي العملُ بصاحبِه إلى نتيجة غالطة، ولكن يُؤجَر العامل على عملِه هذا؛ فقد روي أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا حكَم الحاكم فاجتهد ثم أصاب، فله أجرانِ، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ، فله أجرٌ))[5].
والمسلم يتجنَّب الشر، ويأتي من الخير ما يستطيع؛ طمَعًا في الجنة، وخوفًا من النار، وهذه النية في ذاتِها أو هذا الدافع في ذاته، لا غبارَ عليه؛ فالمقابل الأخروي قد وعَد الله به الخيِّرين من المؤمنين في عشرات من الآيات:
﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ﴾ [التوبة: 111].
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا ﴾ [الكهف: 107].
﴿ فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ﴾ [البقرة: 24].
﴿ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ﴾ [الكهف: 29].
وقد يكون للمؤمنِ من وراء العمل الصالح – غير الهدف الأخروي – هدفٌ دنيوي عاجل، وهو توفيقُ اللهِ له في الدنيا، وتوسيع باب الرِّزق، وما شابَهَ ذلك، وقد قال اللهُ تعالى في مُحكَم كتابه: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ﴾ [الأعراف: 96].
فالعملُ يوزَن بميزان النية، والعمل يكتسب أو يعدم “قيمته الأخلاقية” تبعًا للدافع الذاتي، وهو ما يسمَّى بالنية، قال أبو سلمةَ: “قلت لأبي سعيد الخدريِّ: ما ترى فيما أحدَث الناس من الملبَسِ والمشرَب والمركَب والمطعَم؟ فقال: يا بن أخي، كُلْ لله، واشرَب لله، والبَسْ لله، وكل شيء من ذلك دخَله زهوٌ أو مباهاة أو رياء أو سُمعة، فهو معصية أو سَرَفٌ”[6].
وقد أشَرْنا اّنفا أن “الهيمنةَ التشريعية” من أهمِّ سمات القِيم الإسلامية، بمعنى أن كل الأعمال والتكاليف لا تأخُذُ صورتها السليمةَ، ووجهَها الصحيح، إلا إذا كان لها طابعها الأخلاقيُّ الإنسانيُّ، وحققت أغراضها ومراميَها الإنسانية التي تُعَدُّ في ذاتها الحِكَم التي أرادها الشارع من وضعها.
وتتجلى هذه “الهيمنة التشريعية” للطوابع الأخلاقية الإسلامية في جوانبَ كثيرة جدًّا من التشريعات، أهمها: العبادات والقواعد القانونية، وخاصة في مجالِ المعاملات والمدنيات، وسنحاول أن نلقيَ الضوء على هذين الجانبين:
أولاً: هادفية العبادات:
بنى الله – سبحانه وتعالى – الإسلامَ على خمس قواعد؛ الشهادتين، وهما الركن الأول، أما الأركان الأربعة الباقية، فتُمثِّل ما يسمَّى بالعبادات، وهي: إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيتِ لمن استطاع إليه سبيلاً.
وهذه العبادات حدَّدها لنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم كمًّا وكيفًا؛ فالصلاة خمس، منها: الثنائية والثلاثية والرباعية، في أوقاتٍ محدَّدة، وهي تؤدَّى بهيئة معينة حدَّدها النبي عليه السلام.
والزكاة أنواع، منها: زكاة المال، وزكاة التجارة، وزكاة الفِطر، وزكاة الحيوان… إلخ، والصوم شهر في العام، هو شهر رمضان.
والحج مرة في العمر، في وقت محدَّد في العام، بأركان وشروط معروفة.
والمسلِم مُطالَب بأن يؤديَ هذه العبادات – من الناحية الشكلية المظهرية – بالصورةِ التي تطلَّبها الإسلام، فليس له – مَثلاً – أن يصليَ الظهر ثلاث ركعات، وليس من حقِّه أن يصلي المغرب أربع ركعات، ولكننا نلاحظ بالنسبة لهذه التكاليف التعبُّدية أمرين:
الأول: أن القرآن لم يفصِّل أغلبَها من ناحية الكم والتوقيت، وما عُرِف بشأن تفصيلاتها إنما عُرِف من السنَّة بنوعيها: القوليِّ والعملي.
الثاني: أن القرآنَ في حديثه عن هذه العبادات يحرصُ على أن يربطَها دائمًا بأهدافها وقِيَمها الأخلاقية والإنسانية العليا، وقد رأينا من قبلُ أن المسلم قد يعذَّب بعملِه “الصالح” إذا كان وراءه نيَّة خبيثة غيرُ صالحة، وهي قاعدةٌ عامَّة، تصدُقُ على الجهاد والعِلم والصَّدقة… إلخ.
ولنقِفْ قليلاً أمام المنطق القرآني، وهو يلفِتُنا لجوهر العبادة، والهدف النبيل الذي شُرعت مِن أجله:
فالصلاة – وهي عماد الدِّين – ذُكِرت في القرآن عشرات المرات، والعجيب أن التعبير عنها كان دائمًا بـ: “الإقامة” لا بـ: “الأداء”، القرآن يقول: “أقيموا الصلاة”، لا “أدوا الصلاة”، ويتحدَّث عن المؤمنين بأنهم يُقِيمون الصلاة.
يقول الإمام محمد عبده في تفريقه الباهر بين الإقامة والأداء: إن الصلاةَ متى حددت بكيفية مخصوصة، يقال لمن يؤديها بتلك الكيفية: إنه صلَّى، وإن كان عملُه هذا خِلوًا مِن معنى الصلاة وقوامها المقصود مِن الهيئة الظاهرة، فاحتيج إلى لفظٍ يدلُّ على هذا المعنى الذي به قِوامُ الصلاة، وهو ما عبَّر عنه القرآنُ بلفظ الإقامة، وقد قالوا: إن إقامةَ الصلاة عبارةٌ عن الإتيان بجميع حقوقها؛ من كمالِ الطهارة، واستيفاء الأركان والسُّنَن، وهو لا يعدو وصفَ الصورة الظاهرة، وإنما قِوام الصلاة الذي يحصل بالإقامةِ هو التوجُّهُ إلى الله تعالى، والخشوع الحقيقي له، والإحساس بالحاجةِ إليه تعالى.
فإذا خَلَتْ صورةُ الصلاة من هذا المعنى، لم يصدُقْ على المصلي أنه أقام الصلاة، فإنه قد هدَمها بإخلائِها من عِمادِها، وقتَلها بسلبِها رُوحَها[7].
ولقد أبان القرآنُ الكريم عن جوهرِ الصلاة وغايتها في قوله تعالى: ﴿ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ [العنكبوت: 45].
فرسالة الصلاة هي إحياءُ النفس، وتربية الضمير، وصَقْل القَلْب، وغَرْس التقوى في أعمال المؤمن: فإذا ما همَّ بمعصية كان لصلاته “صَوْتٌ” قوي ينهاه، و”سَوْط” لاهب يكبَحُ جماحَ كلِّ نازع خبيثٍ.
أما إذا تخلت الصلاةُ – أو شاء صاحبها أن تتخلى – عن رسالتِها، فهي الاستغفار الذي يحتاج إلى استغفار، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: “مَن لم تأمره صلاتُه بالمعروف، وتنهَه عن المنكَرِ، لم يزدَدْ بصلاته مِن الله إلا بُعدًا”، وعن الحسن – رحمه الله -: “مَن لم تنهَه صلاتُه عن الفحشاء والمنكَر، فليست صلاتُه بصلاةٍ، وهي وبالٌ عليه”[8].
ومِن كرامة الصلاة أن الله – سبحانه وتعالى – قرَنها أكثرَ من مرة بخَليقةٍ مِن أنبل الخلائق الإنسانية، وهي الصبر:
﴿ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ ﴾ [البقرة: 45].
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 153].
﴿ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ [لقمان: 17].
والمصلِّي الذي يحرص على صلاته ويحافظ عليها، يغرس اللهُ في نفسه الطمأنينةَ، فلا يعرفُ الهلَعَ أو الضَّعف أو الاستسلامَ في حالة الضَّرَّاء، وهو خير مِعطاءٍ في السراء، استمِعْ إلى قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ ﴾ [المعارج: 19 – 23][9].
فالهلَع والجزَع من صفات الإنسان الذي خوى قلبُه من يقين الإيمان، واستثناءُ المصلِّين من هذه النوعية من البشر يمنَحُهم – بمفهوم المخالفة – عكسَ هذه الصفات، ويلاحظ كذلك أن الآياتِ نصَّت على “ديمومة الصلاة”، وهي خَصيصةٌ تُعطي صفةَ الاستقرار والاستطراد؛ فهي صلاة لا يقطَعُها التَّركُ والإهمال والكسل، وهي صِلة بالله مستمرَّة غيرُ منقطعة، وقد كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا عمِل شيئًا مِن العبادة أثبَتَه – أي: داوَمَ عليه – وكان يقول: ((وإن أحبَّ الأعمالِ إلى الله تعالى ما دام وإنْ قلَّ))[10].
وإلى هذا المفهومِ الجوهريِّ الإنسانيِّ للعبادة، كان القرآنُ يلفِتُ أنظارَ المسلمين دائمًا؛ فالعبرةُ بجواهر الأشياء، لا بقشورها وفروعها، وحينما أراد أهلُ الكتاب أن يشدوا المسلمين إلى معركة فرعيةٍ، بخَوْضِهم في مسألة القِبلة، وتحوُّلها من بيت المقدس إلى الكعبة، وخاض معهم بعضُ المسلمين هذا المخاض – حينئذٍ نزَل القرآن ليرُدَّ المسلمين إلى النَّهج الصحيح، فجاء قول الله تعالى: ﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 177][11].
إن القرآنَ يوجِّه نظَر المسلمين إلى المضمون الإنساني للعمل، إنه يقول للمسلم: اصدُقِ النية، وتقدَّم واثقَ العزيمة، وأدِّ العملَ بقدر ما تستطيع لله والناس والمجتمع، أما الذين يُهدِرون طاقاتهم وجُهْدهم في قشورِ الأشياء ومظاهرها، فليسوا من الحقِّ ولا من البِرِّ في شيء.
إن الإسلامَ يفتح مفهوم البرِّ ليتسعَ لكل عمل إنساني، ويتسع هذا المفهوم حتى يكاد يكون مرادفًا “للإنسانية” بجانبيها القوليِّ والفعليِّ؛ “فالبرُّ كلُّ عمل يفعله الإنسان قضية لانقيادِه للملأ الأعلى، واضمحلاله في تلقِّي الإلهام من الله، وصيرورته فانيًا في مراد الحقِّ، وكل عمل يجازى عليه خيرًا في الدنيا أو الآخرة، وكل عمل يُصلح الارتفاقات التي بُنِي عليها نظامُ الإنسان، وكل عمل يفيد حالة الانقياد، ويدفَعُ الحجب.
والإثم كلُّ عمَل يفعله الإنسان قضية لانقياده للشيطان، وصيرورته فانيًا في مراده، وكل عمل يجازى عليه شرًّا في الدنيا أو الآخرة، وكل عمل يُفسد الارتفاقات، وكل عمل يفيد هيئةً مضادة للانقياد ويؤكد الحجب”[12].
2- والصوم لا يقصد به الإجاعة والإظماء؛ فالامتناعُ عن الطعام والشراب في نهار رمضان هو المظهرُ الحسي المباشر للصوم، ولكن الصوم ليس “عقابًا” يُفرَض على المؤمن، إنما هو “تربية” عُلوية لها جانبُها الاجتماعي، وجانبها النفسي، وجانبها الإنساني العامُّ، مما لا يتسعُ هذا المقام لتفصيلِ القول فيه، وقد قيل لنبيِّ الله يوسف: “ما لك تجُوعُ وأنت على خزائنِ الأرض؟ قال: أخافُ أن أشبَعَ فأنسى الجائعَ”[13].
فالصومُ إذًا ليس التزامًا بالجوع والعطش المقصودين لِذَاتهما، ولكنه التزام خُلُقي، يتَّخِذ من الجوع والعطش وسيلةً موصلة إلى الخير، يوسف يجوعُ لا حُبًّا في الجوع لِذَاته، ولكن ليذكر آلام الجائعين، والمسلم يجوع ويعطش ليذكر آلامَ الجوعى والعطشى.
إن مِن جوامع الكَلِم قولَه صلى الله عليه وسلم: ((الصِّيام جُنَّة))، والجُنة – بضم الجيم -: هي كلُّ ما وقى[14]؛ فهو وقاية للإنسان من النَّهم، والبِطنة، وأمراض البدَن والمَعِدة؛ كما أثبَت الأطباءُ بالشواهدِ الجازمة.
وهو وقاية للإنسان من التطلُّعات الشَّهوانية، ومن السقوط والانحراف، والإساءة إلى الآخرين؛ فالالتزام الخُلقي للصائم يقتضيه ألا يرفُثَ ولا يجهَلَ، وإنِ امرؤ قاتَله أو شاتَمه، فليقل: إني صائم[15].
والإنسان تحكُمُه عاداته، ويصل به الأمر إلى أن يصبحَ مجموعة من العادات، وتتحكم فيه العادات إلى درجةٍ يصبح معها كأنه آلةٌ من الآلات، تسيرُ على نسَق معين، وتؤدي أعمالاً محدودة، فيبتعد كلَّ الابتعاد عن المُرونةِ التي تفرِّق بينه وبين الآلات.
والإنسان الذي تحكُمُه عادته يصبح عبدًا لها، ويتخلى عن شِيَم الأحرار الذين يعملون في حرية واختيار.
وفرَض اللهُ الصيام ليحررَ الإنسان من هذه العبودية؛ فإن الصيامَ يقلب العاداتِ رأسًا على عقب، ويعلِّم الإنسان نوعًا من المرونة؛ حتى لا يتصرفَ تصرُّف الآلة[16].
وصفوة القول أن قيمةَ العبادات ليست في كونها حركاتٍ تؤدى، وشعائرَ تؤتى، إنما قيمتها أن تكونَ منهج حياة يشمل كلَّ الحياة، قيمتها أن تكونَ خطة سلوك، وخطة عمل، وخطة فِكر، وخطة شعور، قائمة كلها على منهجٍ واضح، يتبيَّنُ فيه – في كل خطة – ما ينبغي وما لا ينبغي أن يكونَ[17].
ويطول بنا المقام لو رُحنا نستقرئ القِيَم النَّفسية والرُّوحية والدُّروس العلمية في الزكاة والحج، ويكفينا أن نقولَ: إن كلَّ هذه العبادات استطاعت – بحق – أن تربيَ جيلاً من المسلمين فتَح مشارقَ الأرض ومغاربها، ونشَر كلمةَ الله في أرجاء المعمورة، وكأن لسان حالهم يقول: ﴿ صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ ﴾ [البقرة: 138][18].
..
________________________________________
[1] البخاري 1/ 21 (كتاب الإيمان).
[2] حجة الله البالغة 2/ 83.
[3] صحيح مسلم 4/ 567 (كتاب الإمارة).
[4] صحيح مسلم 4/ 568 (كتاب الإمارة).
[5] البخاري 9/ 132 (كتاب الاعتصام).
[6] الإحياء 11/ 1967.
[7] تفسير المنار 1/ 128.
[8] انظر الكشاف 3/ 207.
[9] هَلُوعًا: سريع الخوف شديد الحرص، جزوعًا: كثير الجزع والأسى، مَنُوعًا: كثير المنع والإمساك.
[10] سيد قطب: الظلال 6/ 3699.
[11] البِر: هو جميعُ الطاعات وأعمال الخير، في الرقاب: في تحريرِها من الرِّقِّ أو الأَسْرِ، البأساء: الفقر ونحوه، الضرَّاء: السقم ونحوه، حين البأس: وقت مجاهدة العدو.
[12] الدهلوي: حجة الله البالغة 1/ 58.
[13] الشِّفا 1/ 299.
[14] القاموس المحيط، فصل الجيم، باب النون (4/ 210).
[15] انظر البخاري 3/ 31، (كتاب الصوم).
[16] عبدالحليم محمود: أسرار العبادات في الإسلام 83.
[17] محمد قطب: منهج التربية الإسلامية 39.
[18] صبغة الله: تطهير اللهِ النفوسَ بالإيمان.
 

 

 
 
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد