العمق نيوز
جريدة أخبارية شاملة

وَبِالْوَالِدَينِ إِحْسَانًا 

0

وَبِالْوَالِدَينِ إِحْسَانًا

محمد سعيد أبوالنصر

إِنَّهُ مَوْضُوعٌ جَدِيرٌ بِالْعِنَايَةِ وأَمْرٌ يَهُمُّ الْكَبِيرَ وَيَحْتَاجُهُ الصَّغِيرُ ، إِنَّهُ حَقٌّ فَرَضَهُ رَبُّ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتِ،وَجَعَلَهُ قُرْبَةً مِنْ أَعْظَمِ الْقُرُبَاتِ،وَجَعَلَهُ سَبِيلَاً لِلْفَوْزِ بِرَضَاهُ وَدُخُولَ الْجَنَّاتِ،إِنَّهُ عَمَلٌ حَثَّ اللهُ عَلَيْهِ وَرَغَّبَ فِيهِ وَارْتَضَاه .
إِنَّهُ حَقٌّ لازِمٌ عَلَى كُلِّ أَحَد،وَلا يَنْفَكُّ مِنْهُ شَخْصٌ أَبَدَ الأَبَد ! إِنَّهُ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ …… إِنَّهُ حَقُّ الأُمِّ الْحَنُونِ وَجَزَاءُ الأَبِ الْعَطُوفِ .
وقَدْ تَكَاثَرَتْ الآيَاتُ الْقُرْآنِيَّة،وَتَعَدَّدَتْ فِيهِ الأَحَادِيثُ النَّبَوِيَّة،وَأَفَاضَ فِيهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ
معنى بِرُّ الْوَالِدَيْنِ .
الْبِرُّ فِي اللُّغَةِ
مِنْ مَعَانِي الْبِرِّ فِي اللُّغَةِ : الْخَيْرُ وَالْفَضْل وَالصِّدْقُ وَالطَّاعَةُ وَالصَّلاَحُ
وَفِي الاِصْطِلاَحِ : يُطْلَقُ فِي الأَْغْلَبِ عَلَى الإِْحْسَانِ بِالْقَوْل اللَّيِّنِ اللَّطِيفِ الدَّال عَلَى الرِّفْقِ وَالْمَحَبَّةِ ، وَتَجَنُّبِ غَلِيظِ الْقَوْل الْمُوجِبِ لِلنُّفْرَةِ ، وَاقْتِرَانِ ذَلِكَ بِالشَّفَقَةِ وَالْعَطْفِ وَالتَّوَدُّدِ وَالإِْحْسَانِ بِالْمَال وَغَيْرِهِ مِنَ الأَْفْعَال الصَّالِحَاتِ .
والْبِرُّ: اسْمٌ جَامِعٌ لِلْخَيْرِ وَكُلِّ فِعْلٍ مَرْضِيٍّ، كفعْلِ الْوَاجِبَاتِ واجْتِنَابِ الْمُحَرَّمَاتِ.عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبيِّ ﷺ، قَالَ: ((الْبِرُّ: حُسْنُ الْخُلُقِ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) .
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- يَقُولُ: «الْبِرُّ شَيْءٌ هَيِّنٌ: وَجْهٌ طَلِيقٌ، وَكَلَامٌ لَيِّنٌ».
وَالأَْبَوَانِ : هُمَا الأَْبُ وَالأُْمُّ .
وَيَشْمَل لَفْظُ ( الأَْبَوَيْنِ ) الأَْجْدَادَ وَالْجَدَّاتِ . قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ : وَالأَْجْدَادُ آبَاءٌ ،وَالْجَدَّاتُ أُمَّهَاتٌ ، فَلاَ يَغْزُو الْمَرْءُ إِلاَّ بِإِذْنِهِمْ ، وَلاَ أَعْلَمُ دَلاَلَةً تُوجِبُ ذَلِكَ لِغَيْرِهِمْ مِنَ الإِْخْوَةِ وَسَائِرِ الْقَرَابَاتِ
حُكْمُ بر الوالدين :
اهْتَمَّ الإِْسْلاَمُ بِالْوَالِدَيْنِ اهْتِمَامًا بَالِغًا وَجَعَل طَاعَتَهُمَا وَالْبِرَّ بِهِمَا مِنْ أَفْضَل الْقُرُبَاتِ . وَنَهَى عَنْ عُقُوقِهِمَا وَشَدَّدَ فِي ذَلِكَ غَايَةَ التَّشْدِيدِ .
قَالَ اللهُ تَعَالَى (وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا) وكَرَّرَ اللهُ الْوَصِيَّةَ بِهِمَا مِرَارَاً وَتَكْرَارَاً بِصُوَرٍ مُتَعَدِّدَةٍ فَفِي سُورَةِ الأَحْقَافِ يَقُولُ اللهُ تَعَالَى (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً) وَفِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ يَقُولُ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا) وَفِي سُورَةِ لُقْمَانَ جَاءَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ)
فَتَأَمَّلُوا هَذِهِ الْوَصَايَا الْمُتَعَدِّدَة َ مِنْ رَبِّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَلَهُ الْحَمْدُ وَالْمُنَّةُ،بِهَذَيْنِ الْوَالِدَيْنِ الْكَرِيمَيْنِ،فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ يَتَهَاوَنُ عَاقِلٌ فِي بِرِّهِمَا ؟ أَوْ يَتَوَانَى مُسْلِمٌ فِي خِدْمَتِهِمَا ؟ لا شَكَّ أَنَّ الْجَوَابَ : كَلَّا وَأَلْفُ كَلَّا .
((وَصِيَّةُ اللهِ بِالْإِحْسَانِ لِلْوَالِدَيْنِ))
قَدْ أَمَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْإِنْسَانَ وَوَصَّاهُ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا؛ أَيْ: بِبِرِّهِمَا وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، وَأَنْ يُحَافِظَ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا يَعُقَّهُمَا وَيُسِيءَ إِلَيْهِمَا فِي قَوْلِهِ وَعَمَلِهِ.
فقوله {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} [العنكبوت: ٨].أي وَأَمَرْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ أَنْ يَبَرَّهُمَا، وَيُحْسِنَ إِلَيْهِمَا، وَيُطِيعَ أَمْرَهُمَا فِي الْمَعْرُوفِ.
ومِنْ لُطْفِ اللهِ -تَعَالَى- بِعِبَادِهِ وَشُكْرِهِ لِلْوَالِدَيْنِ أَنْ وَصَّى الْأَوْلَادَ وَعَهِدَ إِلَيْهِمْ أَنْ يُحْسِنُوا إِلَى وَالِدِيهِمْ بِالْقَوْلِ اللَّطِيفِ، وَالْكَلَامِ اللَّيِّنِ، وَبَذْلِ الْمَالِ وَالنَّفَقَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ الْإِحْسَانِ.
وقوله تَعَالَى-: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا} [الأحقاف:15].
أي أَمَرْنَا الْإِنْسَانَ بِأَنْ يُحْسِنَ إِلَى وَالِدَيْهِ إِحْسَانًا عَظِيمًا، وَيَبَرَّهُمَا بِصُنُوفِ الْبِرِّ فِي حَيَاتِهِمَا وَبَعْدَ مَمَاتِهِمَا.
وَقَالَ تَعَالَى: { وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّل مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا }سورة الإسراء / 23 ، 24 .” فَقَدْ أَمَرَ سُبْحَانَهُ بِعِبَادَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ وَجَعَل بِرَّ الْوَالِدَيْنِ مَقْرُونًا بِذَلِكَ ، وَالْقَضَاءُ هُنَا : بِمَعْنَى الأَْمْرِ وَالإِْلْزَامِ وَالْوُجُوبِ” . فَتَأَمَّلُوا كَيْفَ افْتَرَضَ اللهُ تَوْحِيدَهُ وَعِبَادَتَهُ التِي هِيَ أَعْظَمُ الْحُقُوقِ عَلَيْنَا،ثُمَّ أَرْدَفَ حَقَّ الْوَالِدَيْنِ بِحَقِّهِ لِيَدُلَّ عَلَى تَعْظِيمِ حَقِّ هَذَيْنِ الشَّخْصَيْنِ الْكَرِيمَيْنِ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ .
كَمَا قَرَنَ الله شُكْرَهُمَا بِشُكْرِهِ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : { أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ } سورة لقمان / 14 ]. فَالشُّكْرُ لِلَّهِ عَلَى نِعْمَةِ الإِْيمَانِ ، وَلِلْوَالِدَيْنِ عَلَى نِعْمَةِ التَّرْبِيَةِ . وَقَال سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ : مَنْ صَلَّى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فَقَدْ شَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى ، وَمَنْ دَعَا لِوَالِدَيْهِ فِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ فَقَدْ شَكَرَهُمَا . ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ أَحَبِّ الأَعْمَالِ الْمُقَرِّبَةِ لِلرَّبِّ ذِي الْجَلالِ،فَتَأَمَّلُوا مَاذَا قَالَ،
جاء فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَال : سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَيُّ الأَْعْمَال أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَل ؟ قَال : الصَّلاَةُ عَلَى وَقْتِهَا قَال : ثُمَّ أَيٌّ ؟ قَال : بِرُّ الْوَالِدَيْنِ قَال : ثُمَّ أَيٌّ ؟ قَال : الْجِهَادُ فِي سَبِيل اللَّهِ. فَأَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ أَفْضَل الأَْعْمَال بَعْدَ الصَّلاَةِ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ دَعَائِمِ الإِْسْلاَمِ .
وَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ عَلَى الْجِهَادِ ؛ لأَِنَّ بِرَّهُمَا فَرْضُ عَيْنٍ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِهِ ، وَلاَ يَنُوبُ عَنْهُ فِيهِ غَيْرُهُ . فَقَدْ قَال رَجُلٌ لاِبْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : إِنِّي نَذَرْتُ أَنْ أَغْزُوَ الرُّومَ ، وَإِنَّ أَبَوَيَّ مَنَعَانِي . فَقَال : أَطِعْ أَبَوَيْكَ ، فَإِنَّ الرُّومَ سَتَجِدُ مَنْ يَغْزُوهَا غَيْرَكَ
وَالْجِهَادُ فِي سَبِيل اللَّهِ فَرْضُ كِفَايَةٍ إِذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنِ الْبَاقِينَ ، وَبِرُّ الْوَالِدَيْنِ فَرْضُ عَيْنٍ ، وَفَرْضُ الْعَيْنِ أَقْوَى مِنْ فَرْضِ الْكِفَايَةِ . وَفِي خُصُوصِ ذَلِكَ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا مَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَال : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَأْذَنَهُ فِي الْغَزْوِ .
فَقَال : أَحَيٌّ وَالِدَاكَ ؟ قَال : نَعَمْ . قَال فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ .
وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ . جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال : جِئْتُ أُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ ، وَتَرَكْتُ أَبَوَيَّ يَبْكِيَانِ فَقَال : ارْجِعْ إِلَيْهِمَا فَأَضْحِكْهُمَا كَمَا أَبْكَيْتَهُمَا .
بَلْ جَاءَهُ رَجُلٌ مِنَ الْيَمَنِ أَقْصَى جَنُوبِ الْجَزِيرَةِ الْعَرَبِيَّةِ لِيُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ،فَانْظُرُوا مَا الذِي أَمَرَهُ بِهِ ! فَعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلاً هَاجَرَ إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْيَمَنِ . فَقَال : هَل لَكَ أَحَدٌ بِالْيَمَنِ ؟ قَال : أَبَوَايَ . قَال : أَذِنَا لَكَ ؟ قَال : لاَ . قَال : فَارْجِعْ فَاسْتَأْذِنْهُمَا فَإِنْ أَذِنَا لَكَ فَجَاهِدْ ، وَإِلاَّ فَبِرَّهُمَا . يَرَدُّهُ إِلَى الْيَمَنِ،هَذِهِ الْمَسَافَةِ الْبَعِيدَةِ الشَّاقَّةِ،مِنْ أَجْلِ الْوَالِدَيْنِ،فَيَا للهِ كَمْ فَرَّطْنَا فِي حَقِّ وَالِدِينَا .”هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنِ النَّفِيرُ عَامًّا . وَإِلاَّ أَصْبَحَ خُرُوجُهُ فَرْضَ عَيْنٍ ؛ إِذْ يَتَعَيَّنُ عَلَى الْجَمِيعِ الدَّفْعُ وَالْخُرُوجُ لِلْعَدُوِّ . وَإِذَا كَانَ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ فَرْضَ عَيْنٍ ، فَإِنَّ خِلاَفَهُ يَكُونُ حَرَامًا ، مَا لَمْ يَكُنْ عَنْ أَمْرٍ بِشِرْكٍ أَوِ ارْتِكَابِ مَعْصِيَةٍ ، حَيْثُ لاَ طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ .

رِضَا اَللَّهِ فِي رِضَا اَلْوَالِدَيْنِ
إِنَّ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ عَمَلٌ عَظِيمٌ جَلِيلٌ وَقُرْبَةٌ كَبِيرَةٌ وَسَبَبٌ وَاضِحٌ لِدُخُولِ الْجَنَّةِ،فَعَنْ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ اَلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (رِضَا اَللَّهِ فِي رِضَا اَلْوَالِدَيْنِ،وَسَخَطُ اَللَّهِ فِي سَخَطِ اَلْوَالِدَيْنِ ) أَخْرَجَهُ اَلتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ اِبْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ .
وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلاً أَتَاهُ فَقَالَ : إِنَّ لِي امْرَأَةً وَإِنَّ أُمِّي تَأمُرُنِي بِطَلاقِهَا ؟ فَقَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ ( الوَالِدُ أوْسَطُ أبْوَابِ الجَنَّةِ ، فَإنْ شِئْتَ ، فَأضِعْ ذلِكَ البَابَ ، أَو احْفَظْهُ ) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ ، وَقالَ : حَدِيثُ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
الْبِرُّ بِالْوَالِدَيْنِ مَعَ اخْتِلاَفِ الدِّينِ :
الْبِرُّ بِالْوَالِدَيْنِ فَرْضُ عَيْنٍ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ ، وَلاَ يَخْتَصُّ بِكَوْنِهِمَا مُسْلِمَيْنِ ، بَل حَتَّى لَوْ كَانَا كَافِرَيْنِ يَجِبُ بِرُّهُمَا وَالإِْحْسَانُ إِلَيْهِمَا مَا لَمْ يَأْمُرَا ابْنَهُمَا بِشِرْكٍ أَوِ ارْتِكَابِ مَعْصِيَةٍ . قَال تَعَالَى : { لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } سورة الممتحنة / 8 .
فَعَلَيْهِ أَنْ يَقُول لَهُمَا قَوْلاً لَيِّنًا لَطِيفًا دَالًّا عَلَى الرِّفْقِ بِهِمَا وَالْمَحَبَّةِ لَهُمَا ، وَيَجْتَنِبَ غَلِيظَ الْقَوْل الْمُوجِبَ لِنُفْرَتِهِمَا ، وَيُنَادِيَهُمَا بِأَحَبِّ الأَْلْفَاظِ إِلَيْهِمَا ، وَلْيَقُل لَهُمَا مَا يَنْفَعُهُمَا فِي أَمْرِ دِينِهِمَا وَدُنْيَاهُمَا ، وَلاَ يَتَبَرَّمُ بِهِمَا بِالضَّجَرِ وَالْمَلَل وَالتَّأَفُّفِ ، وَلاَ يَنْهَرُهُمَا ، وَلْيَقُل لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا .
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَسْمَاءَ قَالَتْ : قَدِمَتْ أُمِّي وَهِيَ مُشْرِكَةٌ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ وَمُدَّتِهِمْ إِذْ عَاهَدُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَبِيهَا ، فَاسْتَفْتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ : إِنَّ أُمِّي قَدِمَتْ وَهِيَ رَاغِبَةٌ أَفَأَصِلُهَا ؟ قَال : نَعَمْ ، صِلِي أُمَّكِ ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهَا قَالَتْ : أَتَتْنِي أُمِّي رَاغِبَةً فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَأَصِلُهَا ؟ قَال : نَعَمْ قَال ابْنُ عُيَيْنَةَ : فَأَنْزَل اللَّهُ عَزَّ وَجَل فِيهَا { لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ } . سورة الممتحنة / 8

إِنَّ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ وَاجِبٌ حَتَّى لَوْ كَانَا مُشْرِكَيْنِ،وَلَوْ حَاوَلا فِيكَ أَنْ تَتْرُكَ دِينَكَ الْحَقَّ،فَلا تُطَاوِعْهُمَا لَكِنْ عَلَيْكَ بِحُسْنِ الْمُعَامَلَةِ مَعَهُمَا،قَالَ اللهُ تَعَالَى (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) فَهَذَا فِي الْوَالِدَيْنِ الْكَافِرَيْنِ،فَكَيْفَ بِالْوَالِدَيْن ِ الْمُسْلمَيْنِ ؟ إِنَّهُمَا أَعْظَمُ حَقَّاً وَأَوْلَى بِرَّاً !
وَفِي هَذَا الْمَقَامِ قَال اللَّهُ تَعَالَى : { وَوَصَّيْنَا الإِْنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } سورة العنكبوت / 8 .
.. قِيل : نَزَلَتْ فِي سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ . فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ قَال : كُنْتَ بَارًّا بِأُمِّي فَأَسْلَمْتُ فَقَالَتْ : لَتَدَعَنَّ دِينَكَ أَوْ لاَ آكُل وَلاَ أُشْرِبُ شَرَابًا حَتَّى أَمُوتَ فَتُعَيَّرَ بِي ، وَيُقَال : يَا قَاتِل أُمِّهِ . . وَبَقِيتُ يَوْمًا وَيَوْمًا . فَقُلْتُ : يَا أُمَّاهُ : لَوْ كَانَتْ لَكِ مِائَةُ نَفْسٍ ، فَخَرَجَتْ نَفْسًا نَفْسًا مَا تَرَكْتُ دِينِي هَذَا ، فَإِنْ شِئْتِ فَكُلِي ، وَإِنْ شِئْتِ فَلاَ تَأْكُلِي . فَلَمَّا رَأَتْ ذَلِكَ أَكَلَتْ
الدُّعَاءِ بِالرَّحْمَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ
الدُّعَاءُ بِالرَّحْمَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ حَال حَيَاتِهِمَا فيه خِلاَفٌ ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ .
الاِسْتِغْفَارُ لِلْوَالِدَيْنِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ.
الاِسْتِغْفَارُ لِلأَْبَوَيْنِ الْكَافِرَيْنِ حَال الْحَيَاةِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ ؛ إِذْ قَدْ يُسْلِمَانِ .
أَمَّا الاِسْتِغْفَارُ لَهُمَا بَعْدَ وَفَاتِهِمَا فَمَمْنُوعٌ ، اسْتِنَادًا إِلَى قَوْله تَعَالَى : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى } سورة التوبة / 113 .
فَإِنَّهَا نَزَلَتْ فِي اسْتِغْفَارِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ وَاسْتِغْفَارِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ لأَِبَوَيْهِ الْمُشْرِكَيْنِ . وَانْعَقَدَ الإِْجْمَاعُ عَلَى عَدَمِ الاِسْتِغْفَارِ لَهُمَا بَعْدَ وَفَاتِهِمَا وَحُرْمَتِهِ ، وَعَلَى عَدَمِ التَّصَدُّقِ عَلَى رُوحِهِمَا .
الْخُرُوجُ لِلْجِهَادِ بِغَيْرِ إِذْنِ الْوَالِدَيْنِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ.
عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ : يَجُوزُ لَلابن الْخُرُوجُ لِلْجِهَادِ بِغَيْرِ إِذْنِ الْوَالِدَيْنِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ ؛ لأَِنَّهُمَا مُتَّهَمَانِ فِي الدِّينِ ، إِلاَّ بِقَرِينَةٍ تُفِيدُ الشَّفَقَةَ وَنَحْوَهَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ .
وعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ :لَوْ مَنَعَهُ أَبَوَاهُ الْكَافِرَانِ عَنِ الْخُرُوجِ لِلْجِهَادِ الْكِفَائِيِّ ، مَخَافَةً عَلَيْهِ ، وَمَشَقَّةً لَهُمَا بِخُرُوجِهِ وَتَرْكِهِمَا ، لَهُمَا ذَلِكَ ، وَلاَ يَخْرُجُ إِلاَّ بِإِذْنِهِمَا بِرًّا بِهِمَا وَطَاعَةً لَهُمَا ، إِلاَّ إِذَا كَانَ مَنْعُهُمَا لَهُ لِكَرَاهَةِ قِتَال أَهْل دِينِهِمَا ، فَإِنَّهُ لاَ يُطِيعُهُمَا وَيَخْرُجُ لَهُ .
وَقَال الثَّوْرِيُّ : لاَ يَغْزُو إِلاَّ بِإِذْنِهِمَا إِذَا كَانَ الْجِهَادُ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ . أَمَّا إِذَا تَعَيَّنَ الْجِهَادُ لِحُضُورِ الصَّفِّ ، أَوْ حَصْرِ الْعَدُوِّ ، أَوِ اسْتِنْفَارِ الإِْمَامِ لَهُ بِإِعْلاَنِ النَّفِيرِ الْعَامِّ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ الإِْذْنُ ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْجِهَادُ بِغَيْرِ إِذْنِهِمَا ؛ إِذْ أَصْبَحَ وَاجِبًا عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِهِ ؛ لِصَيْرُورَتِهِ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَى الْجَمِيعِ .
إِنَّ لِلأُمِّ مَزِيَّةٌ وَفَضِيلَةٌ فِي الْحَقِّ وَالْبِرِّ،فَحَقُّهَا أَعْظَمُ الْحُقُوقِ بَعْدَ حَقِّ اللهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،لكن .
أيهما يقدم في البر على الآخر بِرِّ الأَْبِ أم بِرِّ الأُْمِّ :
لَمَّا كَانَ حَقُّ الْوَالِدَيْنِ عَلَى الأَْوْلاَدِ عَظِيمًا ، فَقَدْ نَزَل بِهِ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ ، وَوَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ الْمُطَهَّرَةُ ، وَيَقْضِي ذَلِكَ بِلُزُومِ بِرِّهِمَا وَطَاعَتِهِمَا وَرِعَايَةِ شُئُونِهِمَا وَالاِمْتِثَال لأَِمْرِهِمَا ، فِيمَا لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ ، عَلَى نَحْوِ مَا سَبَقَ بَيَانُهُ .
وَنَظَرًا لِقِيَامِ الأُْمِّ بِالْعِبْءِ الأَْكْبَرِ فِي تَرْبِيَةِ الْوَلَدِ اخْتَصَّهَا الشَّارِعُ بِمَزِيدٍ مِنَ الْبِرِّ ، بَعْدَ أَنْ أَوْصَى بِبِرِّهِمَا ، فَقَال تَعَالَى : { وَوَصَّيْنَا الإِْنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ }سورة لقمان / 14 .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال : يَا رَسُول اللَّهِ : مَنْ أَحَقُّ بِحُسْنِ صَحَابَتِي ؟ قَال : أُمُّكَ قَال : ثُمَّ مَنْ ؟ قَال : أُمُّكَ قَال : ثُمَّ مَنْ ؟ قَال : أُمُّكَ قَال : ثُمَّ مَنْ ؟ قَال : أَبُوكَ .
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ يُوصِيكُمْ بِأُمَّهَاتِكُمْ ، ثُمَّ يُوصِيكُمْ بِأُمَّهَاتِكُمْ ، ثُمَّ يُوصِيكُمْ بِأُمَّهَاتِكُمْ ، ثُمَّ يُوصِيكُمْ بِآبَائِكُمْ ، ثُمَّ يُوصِيكُمْ بِالأَْقْرَبِ فَالأَْقْرَبِ
وَمِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَيُّ النَّاسِ أَعْظَمُ حَقًّا عَلَى الْمَرْأَةِ ؟ قَال : زَوْجُهَا . قُلْتُ : فَعَلَى الرَّجُل ؟ قَال أُمُّهُ .
فَفِيمَا ذُكِرَ – وَغَيْرُهُ كَثِيرٌ – مِمَّا سَبَقَ بَيَانُهُ دَلِيلٌ عَلَى مَنْزِلَةِ الأَْبَوَيْنِ ، وَتَقْدِيمِ الأُْمِّ فِي الْبِرِّ عَلَى الأَْبِ فِي ذَلِكَ ؛ لِصُعُوبَةِ الْحَمْل ، ثُمَّ الْوَضْعِ وَآلاَمِهِ ، ثُمَّ الرَّضَاعِ وَمَتَاعِبِهِ ، وَهَذِهِ أُمُورٌ تَنْفَرِدُ بِهَا الأُْمُّ وَتَشْقَى بِهَا ، ثُمَّ تُشَارِكُ الأَْبَ فِي التَّرْبِيَةِ ،
فَضْلاً عَنْ أَنَّ الأُْمَّ أَحْوَجُ إِلَى الرِّعَايَةِ مِنَ الأَْبِ ، وَلاَ سِيَّمَا حَال الْكِبَرِ . وَلَيْسَ مَعْنَى هَذَا أَنْ يُقَصِّرَ الإِنْسَانُ فِي بِرِّ أَبِيهِ،وَإِنَّمَا الْمَعْنَى أَنْ يَزِيدَ فِي بِرِّ أُمِّهِ دُونَ أَنْ يُقَصِّرَ فِي حَقِّ أَبِيهِ .
لماذا نُقَدِمُ حَقَّ الْأُمِّ على الأب ولماذا كان البر للأم ثلاثا ؟.
الْوَالِدَيْنِ هُمَا أَوْلَى النَّاسِ بِبِرِّ الْإِنْسَانِ؛ فَقَدْ أَمَرَنَا اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا، وَالْبِرِّ بِهِمَا، وَالتَّلَطُّفِ عَلَيْهِمَا، وَخَفْضِ الْجَنَاحِ لَهُمَا.غَيْرَ أَنَّ لِلْأُمِّ مِنَ الْبِرِّ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الْبِرِّ.
وَذَلِكَ لِمَا تَحَمَّلَتْهُ مِنَ الْمَشَاقِّ مِنْ بِدَايَةِ الْحَمْلِ إِلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ؛ مُدَّةَ حَيَاتِهَا فِي الْحَمْلِ وَالْوِلَادَةِ، وَفِي الرَّضَاعَةِ، وَفِي التَّرْبِيَةِ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ لِلْعُقَلَاءِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَتَى رَجُلٌ نَبِيَّ اللهِ ﷺ فَقَالَ: مَا تَأْمُرُنِي؟
فَقَالَ: «بِرَّ أُمَّكَ».
ثُمَّ عَادَ فقَالَ: «بِرَّ أُمَّكَ».
ثُمَّ عَادَ فقَالَ «بِرَّ أُمَّكَ».
ثُمَّ عَادَ الرَّابِعَةَ فَقَالَ «بِرَّ أَبَاكَ». وَالْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَنْ أَبَرُّ؟
قَالَ: «أُمَّكَ».
قُلْتُ: مَنْ أَبَرُّ؟
قَالَ: «أُمَّكَ».
قُلْتُ: مَنْ أَبَرُّ؟
قَالَ: «أُمَّكَ».
قُلْتُ: مَنْ أَبَرُّ؟
قَالَ: «أَبَاكَ، ثُمَّ الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ». وَالْحَدِيثُ حَسَنٌ، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ))، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ -أَيْضًا- فِي ((الْمُسْنَدِ))، وَأَبُو دَاودَ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ. الْأَرْحَامِ؛ فَحَقُّ الْوَالِدَةِ عَلَى الْوَالِدِ فِي الزِّيَادَةِ مَعْلُومٌ مِنْ سِيَاقِ الْحَدِيثِ.
وفِي هَذَا الْحَدِيثِ الْعَظِيمِ: تَقْدِيمُ رِضَا الْأُمِّ عَلَى رِضَا الْأَبِ، والْأُمُّ تَفْضُلُ عَلَى الْأَبِ فِي الْبِرِّ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ؛ لِأَنَّهَا تَحْمِلُ تَعَبَ الْحَمْلِ، وَمَشَقَّةَ الْوَضْعِ، وَمِحْنَةَ الرَّضَاعِ، ثُمَّ تُشَارِكُ الْأَبَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي التَّرْبِيَةِ.
“وَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ: إِنَّ ذَلِكَ لِأَنَّ مَا أَدَّتْهُ لَا يَكُونُ مَنْظُورًا؛ مِمَّا وَجَدَتْهُ مِنْ أَلَمِ الْحَمْلِ وَالْوَضْعِ، وَمَا كَانَ مِنَ التَّرْبِيَةِ وَالرِّعَايَةِ فِي الصِّغَرِ.
فَكُلُّ ذَلِكَ لَا يُدْرِكُهُ الْمَرْءُ إِذَا عَلَتْ بِهِ السِّنُونَ، وَإِنَّمَا يَرَى الرِّعَايَةَ مِنْ أَبِيهِ قَائِمًا، وَيَرَى الْإِنْفَاقَ عَلَيْهِ سَارِيًا، فَقَدْ يُفَرِّطُ فِي حَقِّ الْأُمِّ حِينَئِذٍ، فَدَلَّ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ بِهَذِهِ الصُّورَةِ.
وَشَيْءٌ آخَرُ: لِأَنَّهَا ضَعِيفَةٌ لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهَا، وَلَقَدْ يَكُفُّ الرَّجُلُ أَذَاهُ عَنْ أَبِيهِ خَوْفًا مِنْ قُوَّتِهِ وَتَوَقِّيًا لِبَطْشِهِ.
وَأَمَّا الْأُمُّ.. فَلِضَعْفِهَا، وَلِأُنُوثَتِهَا، وَلِرِقَّتِهَا؛ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَعْتَدِيَ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ مَا ضَابِطٍ مَا يَضْبِطُهُ، وَلَا كَافٍّ يَكُفُّهُ، فَنَبَّهَ الرَّسُولُ ﷺ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ بِهَذِهِ الصُّورَةِ.
وَشَيْءٌ آخَرُ؛ هُوَ: أَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَسْتَحْيِي مِنْ عُقُوقِ أَبِيهِ فِي مَحْضَرٍ مِنَ النَّاسِ؛ خَوْفَ الْمَلَامَةِ مِنْهُمْ، وَحَيَاءً مِنْ مُوَاقَعَةِ هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي تَسْتَفْظِعُهُ النُّفُوسُ السَّوِيَّةُ، وَلَا تَقْبَلُهُ الْأَرْوَاحُ الْمُسْتَقِيمَةُ.
وَلَمَّا كَانَتِ الْأُمُّ فِي سِتْرٍ تَحُفُّهَا جُدْرَانُهَا، وَيُمْكِنُ أَنْ يَعُقَّهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرَاهَا أَحَدٌ وَلَا أَنْ يَلُومَهُ، نَبَّهَ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ بِهَذِهِ الصُّورَةِ.
وَشَيْءٌ آخَرُ؛ وَهُوَ: أَنَّ الْمَرْأَةَ لَمَّا كَانَتْ ضَعِيفَةً، وَكَانَتْ لِأُنُوثَتِهَا رَقِيقَةً، وَقَدْ تَكُونُ سَرِيعَةَ الْغَضَبِ، فَإِذَا مَا عَقَّهَا لَمْ تَتَمَاسَكْ، وَلَمْ تَتَجَلَّدْ، وَأَسْرَعَتْ فِي الدُّعَاءِ عَلَى ابْنِهَا الَّذِي عَقَّهَا أَوْ أَسَاءَ إِلَيْهَا.
فَرَاعَى النَّبِيُّ ﷺ هَذِهِ الطَّبِيعَةَ، وَأَمَرَ الْوَلَدَ بِأَنْ يُحْسِنَ صَحَابَتَهَا مَرَّةً وَمَرَّةً وَمَرَّةً؛ حَتَّى لَا يُلْجِئَهَا إِلَى الدُّعَاءِ عَلَيْهِ، فَتُصَادِفَ بِقَدَرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَقْتًا يَسْتَجِيبُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِيهِ دُعَاءَ مَنْ دَعَاهُ، وَيَكُونُ قَدْ ظَلَمَهَا وَأَسَاءَ إِلَيْهَا، فَيُسْتَجَابُ لَهَا فِيهِ، وَحِينَئِذٍ لَا يَنْفَعُهُ نَدَمٌ، وَلَا يَكُفُّ عَنْهُ مَا أَصَابَهُ شَيْءٌ مِنْ حَوْلٍ وَلَا حِيلَةٍ.
وَفِي تَقْدِيمِ هَذَا الْحَقِّ أَيْضًا : أَنَّهُ لَوْ وَجَبَتِ النَّفَقَةُ عَلَى الْوَلَدِ لأَِبَوَيْهِ ، وَلَمْ يَقْدِرْ إِلاَّ عَلَى نَفَقَةِ أَحَدِهِمَا ، فَتُقَدَّمُ الأُْمُّ عَلَى الأَْبِ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَاتِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ ، وَهُوَ رَأْيٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ ، وَذَلِكَ لِمَا لَهَا مِنْ مَشَقَّةِ الْحَمْل وَالرَّضَاعِ وَالتَّرْبِيَةِ وَزِيَادَةِ الشَّفَقَةِ ، وَأَنَّهَا أَضْعَفُ وَأَعْجَزُ . هَذَا مَا لَمْ يَتَعَارَضَا فِي بِرِّهِمَا .
– فَإِنْ تَعَارَضَا فِيهِ ، بِأَنْ كَانَ فِي طَاعَةِ أَحَدِهِمَا مَعْصِيَةُ الآْخَرِ ، فَإِنَّهُ يُنْظَرُ : إِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا يَأْمُرُ بِطَاعَةٍ وَالآْخَرُ يَأْمُرُ بِمَعْصِيَةٍ ، فَإِنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُطِيعَ الآْمِرَ بِالطَّاعَةِ مِنْهُمَا دُونَ الآْمِرِ بِالْمَعْصِيَةِ ، فِيمَا أَمَرَ بِهِ مِنْ مَعْصِيَةٍ . لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لاَ طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ وَعَلَيْهِ أَنْ يُصَاحِبَهُ بِالْمَعْرُوفِ لِلأَْمْرِ بِذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا } سورة لقمان / 15 . وَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ نَزَلَتْ فِي الأَْبَوَيْنِ الْكَافِرَيْنِ ، إِلاَّ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لاَ بِخُصُوصِ السَّبَبِ .
أَمَّا إِنْ تَعَارَضَ بِرُّهُمَا فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ ، وَحَيْثُ لاَ يُمْكِنُ إِيصَال الْبِرِّ إِلَيْهِمَا دَفْعَةً وَاحِدَةً ، فَقَدْ قَال الْجُمْهُورُ : طَاعَةُ الأُْمِّ مُقَدَّمَةٌ ؛ لأَِنَّهَا تَفْضُل الأَْبَ فِي الْبِرِّ .
وَقِيل : هُمَا فِي الْبِرِّ سَوَاءٌ ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَجُلاً قَال لِمَالِكٍ : وَالِدِي فِي السُّودَانِ ، كَتَبَ إِلَيَّ أَنْ أَقْدُمَ عَلَيْهِ ، وَأُمِّي تَمْنَعُنِي مِنْ ذَلِكَ ، فَقَال لَهُ مَالِكٌ : أَطِعْ أَبَاكَ وَلاَ تَعْصِ أُمَّكَ . يَعْنِي أَنَّهُ يُبَالِغُ فِي رِضَى أُمِّهِ بِسَفَرِهِ لِوَالِدِهِ ، وَلَوْ بِأَخْذِهَا مَعَهُ ، لِيَتَمَكَّنَ مِنْ طَاعَةِ أَبِيهِ وَعَدَمِ عِصْيَانِ أُمِّهِ .
وَرُوِيَ أَنَّ اللَّيْثَ حِينَ سُئِل عَنِ الْمَسْأَلَةِ بِعَيْنِهَا قَال : أَطِعْ أُمَّكَ ، فَإِنَّ لَهَا ثُلُثَيِ الْبِرِّ . كَمَا حَكَى الْبَاجِيُّ أَنَّ امْرَأَةً كَانَ لَهَا حَقٌّ عَلَى زَوْجِهَا ، فَأَفْتَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ ابْنَهَا : بِأَنْ يَتَوَكَّل لَهَا عَلَى أَبِيهِ ، فَكَانَ يُحَاكِمُهُ ، وَيُخَاصِمُهُ فِي الْمَجَالِسِ تَغْلِيبًا لِجَانِبِ الأُْمِّ . وَمَنَعَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ ذَلِكَ ، قَال : لأَِنَّهُ عُقُوقٌ لِلأَْبِ ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّمَا دَل عَلَى أَنَّ بِرَّهُ أَقَل مِنْ بِرِّ الأُْمِّ ، لاَ أَنَّ الأَْبَ يُعَقُّ . وَنَقَل الْمُحَاسِبِيُّ الإِْجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الأُْمَّ مُقَدَّمَةٌ فِي الْبِرِّ عَلَى الأَْبِ .

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد